بسم الله الرحمن الرحيم :
الدرس الثاني من سلسلة علوم القرآن :
التعريف بعلوم القرآن ، و بيان نشأته و تطوره :
و العلوم : جمع عِلم ، و العلم : الفهم والإدراك. ثم نُقِلَ بمعنى المسائل المختلفة المضبوطة ضبطًا علميًّا.
و المراد بعلوم القرآن : العلمُ الذي يتناول الأبحاث المتعلقة بالقرآن من حيث معرفة أسباب النزول ، و جمع القرآن و ترتيبه ، و معرفة المكي و المدني ، و الناسخ و المنسوخ، و المُحْكَمِ و المتشابه ، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن.
و قد يسمى هذا العلم بأصول التفسير ، لأنَّه يتناول كثيرا من المباحث التي لا بد للمفسر من معرفتها للاستناد إليها في تفسير القرآن .
مدخل :
من فضل الله على الإنسان أنه لم يتركه في الحياة يستهدي بما أودعه الله فيه من فطرة سليمة، تقوده إلى الخير ، و ترشده إلى البر فحسب ، بل بعث إليه بين فترة وأخرى رسولا يحمل من الله كتابًا يدعوه إلى عبادة الله وحده ، و يبشر و ينذر ، لتقوم عليه الحجة: [ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ].
فالقرآن رسالة الله إلى الإنسانية كافة وقد تواترت النصوص الدالة على ذلك في الكتاب والسٌّنَّة: [ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.. [ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ، ( وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة ) ، ولن يأتي بعده رسالة أخرى [ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ] .
فلا غرو من أن يأتي القرآن وافيًا بجميع مطالب الحياة الإنسانية على الأسس الأولى للأديان السماوية: [ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ] .
وتحدّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العرب بالقرآن ، و قد نزل بلسانهم ، و هم أرباب الفصاحة والبيان ، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، فثبت له الإعجاز ، و بإعجازه ثبتت الرسالة.
و كتب الله له الحفظ و النقل المتواتر دون تحريف أو تبديل ، فمن أوصاف جبريل الذي نزل به: [ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ] و من أوصافه و أوصاف المنزل عليه: [ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، و مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ] ، [ إَنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٍ, فيِ كِتَابٍ مَّكَنُونٍ, لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّروَنَ ].
ولم تكن هذه الميزة لكتاب آخر من الكتب السابقة لأنها جاءت موقوتة بزمن خاص، وصدق الله إذ يقول: [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ].
و تجاوزت رسالة القرآن الإنس إلى الجن: [ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ] .
و القرآن بتلك الخصائص يعالج المشكلات الإنسانية في شتى مرافق الحياة ، الروحية و العقلية و البدنية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية علاجًا حكيمًا ، لأنه تنزيل الحكيم الحميد ، و يضع لكل مشكلة بَلْسَمَها الشافي في أسس عامة ، تترسم الإنسانية خُطاها، وتبني عليها في كل عصر ما يلائمها ، فاكتسب بذلك صلاحيته لكل زمان و مكان ، فهو دين الخلود ، و المسلمون هم وحدهم الذين يحملون المشعل وسط دياجير النظم والمبادئ الأخرى ، فحري بهم أن ينفضوا أيديهم من كل بهرج زائف ، و أن يقودوا الإنسانية الحائرة بالقرآن الكريم حتى يأخذوا بيدها إلى شاطئ السلام .
و كما كانت لهم الدولة بالقرآن في الماضي. فإنها كذلك لن تكون لهم إلا به في الحاضر.
تعريف القرآن:
" قرأ ": تأتي بمعنى الجمع و الضم ، و القراءة : ضم الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل ، و القرآن في الأصل كالقراءة : مصدر قرأ قراءة و قرآنًا. قال تعالى: [ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ و قَرُآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ] . أي قراءته، فهو مصدر على وزن "فُعلان" بالضم : كالغفران و الشكران ، تقول : قرأته قرءًا و قراءة وقرآنًا ، بمعنى واحد. سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر.
و قد خص القرآن بالكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فصار له كالعلم الشخصي.
و يطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن ، و على كل آية من آياته ، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول إنه يقرأ القرآن: [ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ].
و ذكر بعض العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله لكونه جامعًا لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم.
كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: [ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ] ، و قوله: [ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ].
وذهب بعض العلماء إلى أن لفظ القرآن غير مهموز الأصل في الاشتقاق ، إما لأنه وضع علمًا مرتجلًا على الكلام المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- و ليس مشتقًا من "قرأ"، و إما لأنه من قرن الشيء بالشيء إذا ضمه إليه ، أو من القرائن لأن آياته يشبه بعضها بعضًا فالنون أصلية ، و هذا رأي مرجوح ، و الصواب الأول.
و القرآن الكريم يتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس و الفصول و الخواص .
بحيث يكون تعريفه حدًّا حقيقيًّا ، و الحد الحقيقي له هو استحضاره معهودًا في الذهن أو مُشاهدًا بالحس كأن تشير إليه مكتوبًا في المصحف أو مقروءًا باللسان فتقول: هو ما بين هاتين الدفتين ، أو تقول: هو من [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ]... إلى قوله: [ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ].
و يذكر العلماء تعريفًا له يُقَرِّبُ معناه ويميزه عن غيره ، فيُعَرِّفُونَهُ بأنه: "كلام الله ، المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- المتعبد بتلاوته". فـ "الكلام" جنس في التعريف، يشمل كل كلام، وإضافته إلى "الله" يُخْرِجُ كلام غيره من الإنس والجن والملائكة.
و"المنزَّل" يُخْرِج كلام الله الذي استأثر به سبحانه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه}.
وتقييد المنزَّل بكونه "على محمد ، صلى الله عليه وسلم" يُخرج ما أُنْزِلَ على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل وغيرهما.
و "المتعبد بتلاوته" يُخرج قراءات الآحاد ، و الأحاديث القدسية - إن قلنا إنها منزَّلة من عند الله بألفاظها- لأن التعبد بتلاوته معناه الأمر بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة ، و ليست قراءة الآحاد و الأحاديث القدسية كذلك.
أسماؤه و أوصافه:
وقد سمّاه الله بأسماء كثيرة:
منها "القرآن". {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
و "الكتاب". {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}.
و "الفرقان". {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.
و "الذكر".. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}..
و "التنزيل".. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، إلى غير ذلك مما ورد في القرآن.
و قد غلب من أسمائه : "القرآن" و "الكتاب" ، قال الدكتور محمد عبد الله دراز:
"رُوعِيَ في تسميته "قرآنًا" كونه متلوًّا بالألسن ، كما رُوعِيَ في تسميته "كتابًا" كونه مدوَّنًا بالأقلام ، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه".
و في تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب ، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وُضِعَ عليها أول مرة ، و لا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفَّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
و بهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها. بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفَّل بحفظه حيث يقول: [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ] و لم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف و التبديل و انقطاع السند" .
و بيَّن سر هذه التفرقة بأن سائر الكتب السماوية جِيء بها على التوقيت لا التأبيد ، و أن هذا القرآن جِيء به مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتب و مهيمنًا عليها ، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة زائدًا عليها بما شاء الله زيادته ، وكان سائرًا مسيرها ، و لم يكن شيء منها ليسد مسدّه ، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة ، و إذا قضى الله أمرًا يَسَّر له أسبابه - و هو الحكيم العليم- و هذا تعليل جيد.
ووصف الله القرآن بأوصاف كثيرة كذلك:
منها "نور".. [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا].
و "هدى" و "شفاء" و "رحمة" و "موعظة".. [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ].
و"مبارك".. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه}.
و"مبين".. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}.
و"بشرى".. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
و"عزيز".. [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ].
و "مجيد".. [ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ].
و"بشير" و"نذير".. [ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا ].
وكل تسمية أو وصف فهو باعتبار معنى من معاني القرآن.
يتبع إن شاء الله تعالى .
و الله الموفق لا رب سواه .
و إلى لقاء آخر يتجدد مع علوم كتاب الله عز و جل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق