بسم الله الرحمن الرحيم :
الدرس الثاني من سلسلة دروس علم أصول الفقه :
درس اليوم : تدوين أصول الفقه و تاريخه .
تدوين أصول الفقه:
أما تدوين أصول الفقه، فقد اختلف الباحثون في بَدء هذا التاريخ، فمنهم من يرى أنَّ الإمام جعفر الصادق هو واضع هذا العلم؛ أي: أول من دوَّن فيه، ومن قائل يرى أنَّ أول من دوَّن في أصول الفقه هو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، ولكن لم يصلْ إلينا شيءٌ من كُتُبِه.
والثابت لدى أغلب الباحثين أنَّ أول من صنَّف في هذا العلم تصنيفًا مستقلاً، إنما هو عالم قريش الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي اتَّجه إلى تدوين هذا العلم الجليل، فرسم مناهج الاستنباط، ووضَّح معالِمَ هذا العلم.
ولقد كان الشافعي جديرًا بأن يكونَ أوَّل مَن يدوِّن ضوابط الاستنباط؛ فقد أُوتِي عِلمًا دقيقًا باللسان العربي؛ حتى عُدَّ في صفوف الكبار من علماء اللغة، وأُوتِي عِلْم الحديث، فتخرَّج على أعظم رجاله، وأحاط بكلِّ أنواع الفقه في عصره، وكان عليمًا باختلاف العلماء من عصر الصحابة إلى عصره، وكان حريصًا أنَ يعرفَ أسباب الخلاف، والوجهات المختلفة التي تتجه إليها أنظار المختلفين، وبهذا وبغيره توفَّرت له الأداة لأنْ يستخرجَ من المادة الفقهيَّة التي تلقاها الموازين التي تُوزن بها آراءُ السابقين، وتكون أساسًا لاستنباط اللاحقين، يراعونها فيقاربون ولا يباعدون.
فبعِلم اللسان استطاع أن يستنبطَ القواعد؛ لاستخراج الأحكام الفقهيَّة من نصوص القرآن والسُّنَّة، وبدراسته في مكةَ التي كان يتوارثُ فيها عِلْم عبدالله بن عباس الذي سُمِّي تُرْجُمان القرآن، عَرَفَ الناسخ والمنسوخ، وباطِّلاعه الواسع على السُّنِّة، وتلقِّيه لها من علمائها وموازنتها بالقرآن، استطاع أن يعرفَ مقامَ السُّنة من القرآن، وحالها عند معارضة بعض ظواهرها لظواهر القرآن الكريم، وقد كانت دراسته لفقه الرأي، وللمأثور من آراء الصحابة أساسًا لما وضعه من ضوابط للقياس، وهكذا وضع الشافعي قواعدَ للاستنباط، ولم تكن في جملتها ابتداعًا ابتدعه، ولكنها ملاحظة دقيقة لما كان يسلكه الفقهاء الذين اهتدى بهم من مناهج في استنباطهم لم يدوِّنوها، فهو لم يبتدع مناهج الاستنباط، ولكن له السَّبْقُ في أنه جمع أشتات هذه المناهج التي اختارها، ودوَّنها في عِلْم مترابطِ الأجزاء".
طُرق التأليف والبحث في أصول الفقه:
لقد استمرَّ التدوين والبحث في أصول الشافعي، ذلك أنَّ أربابَ المذاهب الفقهيَّة اتَّفقوا مع الشافعي في أغلب ما قرَّره في الرسالة، ومنهم مَن اختلفَ معه في بعضها، فالحنفيَّة مثلاً خالفوه في الأخْذِ بالاستحسان الذي كتب فيه الشافعي في الرسالة كتاب إبطال الاستحسان، والمالكية خالفوه في الأخْذِ بعملِ أهل المدينة كمصدر من مصادر فقهِهم، كما خالفوه في الأخْذ بالذرائع، والمصالح المرسَلة.
ومن هنا فَقدْ توسَّعت البحوث في علم أصول الفقه، وكان هناك تيَّاران أو اتجاهان في التأليف:
الاتجاه الأول: طريقة الشافعيَّة :
هذا الاتجاه يبحثُ في علم أصول الفقه على طريقة الشافعي؛ من خلال تقرير القواعد، واستنباطها وبحثِها بحثًا نظريًّا غير متقيِّدٍ بالفروع الفقهيَّة، بل يبحثُ القاعدةَ ويقرِّرها، وينظر فيها؛ سواء خالفتِ الفروع الفقهيَّة المستنبطة من قَبْل أو وافقتها.
ونستطيع أن نلخص أبرزَ خصائص هذا الاتجاه فيما يلي:
1- عدم الالتفات إلى موافقة فروع المذهب أو مخالفتها للقواعد الأصولية، وإنما التعويل الكامل على الأدلة النقليَّة والعقلية.
2- عدم الالتزام بالمذهب فيما يتوصَّل إليه من قواعد، و الإكثار من الاستدلالات العقلية والبراهين النظريَّة.
3- قِلَّة إيراد الفروع الفقهية، إلا في مقام التمثيل والتوضيح، كما أنَّ القواعد الأصولية في طريقة البحث في هذا الاتجاه يُحكم بها على فروع المذهب دون العكس، وكذلك التوسُّع في تحرير القواعد، وتمحيص الخلافات، وتحقيق المسائل.
وقد التزم بهذه الطريقة جمهورُ العلماء الشافعية ، و المالكية ، والحنابلة ؛ فلذا يُطلق عليها طريقة الجمهور.
الاتجاه الثاني: طريقة الحنفية:
وبهذا تختلف أصول الحنفية عن أصول الشافعية، والجمهور في أنَّ أصول الشافعية كانت منهاجًا للاستنباط، وكانت حاكمة عليه، أما طريقة الحنفية فقد كانت غير حاكمة على الفروع بعد أن دُوِّنتْ؛ أي: إنهم استنبطوا القواعد التي تبيِّن مذهبهم وتؤيده؛ فهي إذًا مقاييس مقرَّرة لا مقاييس حاكمة.
ونستطيع أن نلخص أبرز خصائص هذا الاتجاه فيما يلي:
1- هي طريقة لاستنباط أصول الاجتهاد الذي وقع بالفعل، وهي قواعد مستقلِّة يمكن الموازنة بينها وبين غيرها من القواعد.
2 - هي طريقة مطبَّقة في الفروع؛ فهي ليست بحوثًا نظرية مجرَّدة، إنما هي بحوث كُليَّة وقضايا عامة، فتستفيد الكُليَّات من تلك الدراسة.
3- استنباط القواعد الأصولية من الفروع الفقهيَّة، والالتزام بالمذهب فيما يتوصَّل إليه من قواعد، حتى ولو صِيغتِ القاعدة بطريقة متكلفة لتتوافق مع الفروع.
4- كثرة الفروع والأمثلة والشواهد، وقِلة المسائل الافتراضيَّة والنظرية، والمسائل التي لا يَنْبَنِي عليها أثرٌ فِقهي.
5- مكَّنت هذه الطريقة من كثرة التخريج في المذاهب، وتفريع الفروع بناءً على القواعد المستنبطة.
المطلب الرابع: أهم الكتب والمؤلَّفات الأصولية:
كما سبق أنْ بيَّنَّا في دروسنا ، كان هناك اتجاهان أساسيَّان في البحث والتأليف في أصول الفقه، هما اتجاه الشافعيَّة أو الجمهور أو المتكلِّمين كما أُطْلِق عليه، والاتجاه الثاني الذي عُرِف بطريقة الحنفية، ثم كانت طريقة المتأخِّرين التي جمعت بين الطريقتين، وأخيرًا تناولنا بإيجاز طريقة "الشاطبي" الذي نَحا مَنحًى جديدًا في البحث في علم الأصول، وهذه الاتجاهات قد وَضَعَ الباحثون في كلٍّ منها كُتُبًا على طريقته في البحث والتأليف عبر مراحل تاريخ أصول الفقه، ونورد هنا أشهر الكُتب التي وُضِعتْ في كلِّ اتِّجاه.
أولاً: كُتب على طريقة الشافعية:
1-"البرهان"؛ لأبي المعالي الجويني الشافعي، المتوفى (478هـ).
2- "المستصفى"؛ لأبي حامد الغزالي الشافعي، المتوفى (505هـ).
3-"المحصول"؛ لفخر الدين الرازي الشافعي، المتوفى (606هـ).
4- "الإحكام"؛ لسيف الدين الآمدي الشافعي، المتوفى (631هـ).
5- "منهاج الوصول"؛ للبيضاوي، المتوفى ( 685 هـ).
6- "التنقيحات"؛ للقرافي المالكي، المتوفى (684هـ).
7- "منتهى السول"؛ لابن الحاجب المالكي، المتوفى (646هـ).
ثانيًا: كُتب على طريقة الحنفيَّة:
1- "أصول الكرخي": أبي الحسين بن عبيدالله، المتوفى (340هـ).
2- "أصول الجصاص": أبي بكر أحمد بن علي، المتوفى (378هـ).
3- "تقويم الأدلة"؛ لأبي زيد الدبوسي، المتوفى (340هـ).
4- "تمهيد الفصول"؛ للسَّرَخْسِي محمد بن أحمد، المتوفى ( 428هـ).
5- "الأصول"؛ لعلي بن أحمد البزدوي، المتوفى (482هـ).
6- "كشف الأسرار"؛ لعبدالعزيز البخاري، المتوفى (730هـ).
7- "تخريج الفروع على الأصول"؛ للزنجاني، المتوفى (656هـ).
8- "التمهيد"؛ لجمال الدين الإسْنَوي الشافعي، المتوفى (772هـ).
9- "تنقيح الفصول"؛ للقرافي المالكي، المتوفى (684).
10- "القواعد"؛ لأبي الحسن الحنبلي، المتوفى (830هـ).
اتجاه المتأخرين من الأصوليين:
بعد أنِ اسْتقامتِ الطريقتان [ الشافعية و من معهم ، و الحنفية و من معهم ] كلٌّ في منهاجها، ظهرتْ طريقة المتأخِّرين من الأصوليين الذين جمعوا بين الطريقتين، فكانوا يقرِّرون القواعدَ من خلال البحث النظري المجرَّد، ويستشهدون عليها بالفروع، فلا يكون البحثُ النظري مقرِّرًا للقواعد والأصول، ولا تصبح الفروع هي المقرِّرة لما يتمُّ استنباطه من القواعد، وقد ظهرتْ هذه الطريقة في حدود القرن السابع الهجري.
ومن خصائص البحث والدراسة وَفق هذا المنهج:
1- الجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، وبين الفروع الفقهيَّة في دراسة القواعد الأصولية، وعدم الاقتصار على أحدهما.
2- الجمع بين فائدتين؛ فائدة تعود على الفقه، وذلك بذكْر الفروع الفقهيَّة، وفائدة تعود على القواعد الأصولية، وذلك بتمحيص أدلتها ومناقشتها.
3- استيعاب ما أُلِّف على طريقتي المتكلِّمين والفقهاء.
4- سِمَة الاختصار في أغلب المؤلَّفات على هذه الطريقة.
كُتب على طريقة المتأخرين:
1- "بديع النظام"؛ لمظفر الدين الساعاتي، المتوفى (694هـ).
2- "جمع الجوامع"؛ للسبكي الشافعي، المتوفى (771هـ).
3- "تنقيح الأصول"؛ لصدر الشريعة الحنفي، المتوفى (654هـ).
4- "التحرير"؛ للكمال بن الهمام الحنفي، المتوفى (861هـ).
5- "مسلم الثبوت"؛ لمحب الدين عبدالشكور، المتوفى (1119هـ).
6- "إرشاد الفحول"؛ للشوكاني، المتوفى (1250هـ).
منهج جديد:
وهناك من علماء الأصول مَن سلك مسلكًا مُغايرًا، ونهج نهجًا متميِّزًا في البحث والتأليف في علم الأصول، هذا المسلك يقوم على تناول مقاصد الشريعة العامة ومصالحها الكُليَّة، هذه المقاصد وتلك المصالح إنما جاءت الشريعة لحمايتها ومراعاتها، وقد كانت بحوث أصول الفقه السابقة لا تُعْنَى بهذا الجانب ولا تتناوله، ومِن هؤلاء الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 780 هـ؛ فقد اتجه الإمام الشاطبي إلى العناية بأسرار التشريع، وتوضيح مقاصد الشارع، ويُعدُّ كتابه من أعظم ما كُتِبَ في الأصول، كما يُعدُّ بَدءًا لمنهج جديد من الأصول يغاير المناهج القائمة من قبل.
كتب اهتمَّت بمقاصد الشريعة ونظريات الأحكام:
1- "الموافقات في أصول الشريعة"؛ للشاطبي المالكي، المتوفى (790هـ).
2- "الأشباه والنظائر"؛ لتاج الدين السبكي، المتوفى (772هـ).
3- "قواعد الأحكام"؛ لعز الدين بن عبدالسلام، المتوفى (660هـ).
4- "القواعد الفقهية"؛ لابن رجب الحنبلي، المتوفى (795هـ).
5- "منثور القواعد"؛ لبدر الدين الزركشي، المتوفى (794هـ).
6- "الأشباه والنظائر"؛ لجلال الدين السيوطي، المتوفى (911هـ).
7- "الفروق"؛ لشهاب الدين القَرافي المالكي، المتوفى (684).
و الله المسؤول أن يغفر لنا و يرحمنا ، و أن يفتح لنا أبواب الفهم فيما أغلق علينا من العلم ، و إلى لقاء جديد مع دروس جديدة في علم أصول الفقه ، استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق