بسم الله الرحمن الرحيم:
سلسلة دروس علوم القرآن .
الموضوع : تابع لدرس نزول القرآن على سبعة أحرف .
و معلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك ، لو كان تماريًا واختلافًا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل و التحريم والوعد والوعيد و ما أشبه ذلك ، لكان مستحيلًا أن يصوِّب جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحًا وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفَرَضَه، في تلاوة من دلت تلاوته على فَرْضه ، و نهى عن فعل ذلك الشيء بعينه و زَجَر عنه ، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه ، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله. ولمن شاء منهم أن يتركه تركه، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير.
وذلك من قائله -إن قاله- إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله ومحكم كتابه
فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}.
وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن محكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه
على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه لا بأحكام فيهم
مختلفة".
ويُجاب عن الرأي الرابع "د" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه
التغاير التي يقع فيها الاختلاف[هذا الرأي هو أقوى الآراء بعد الرأي الذي اخترناه،
وإليه ذهب "الرازي" وانتصر له من المتأخرين الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ
محمد عبد العظيم الزرقاني ] ؛ بأن هذا وإن كان شائعًا مقبولًا لكنه لا ينهض أمام أدلة
الأول التي جاء التصريح فيها باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى، وبعض وجوه التغاير والاختلاف
التي يذكرونها ورد بقراءات الآحاد، ولا خلاف في أن كل ما هو قرآن يجب أن يكون متواترًا،
وأكثرها يرجع إلى شكل الكلمة أو كيفية الأداء مما لا يقع به التغاير في اللفظ، كاختلاف في الإعراب ،
أو التصريف، أو التفخيم والترقيق والفتح و الإمالة والإظهار والإدغام والإشمام فهذا
ليس من الاختلاف الذي يتنوَّع في اللفظ والمعنى ، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه
لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا.
وأصحاب هذا الرأي يرون أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها،
بمعنى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من هذه الأحرف، فآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، التي تُقرأ بصيغة الجمع وتُقرأ بصيغة الإفراد جاءت في الرسم
العثماني {لأَمَنَتِهِمْ} -موصولة وعليها ألف صغيرة- وآية: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ
بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، جاءت في الرسم العثماني {بَعِدْ} - موصولة كذلك وعليها ألف
صغيرة، وهكذا..
وهذا لا يسلم لهم في كل وجه من وجوه الاختلاف التي يذكرونها.
كالاختلاف بالزيادة والنقص، في مثل قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} .
وقُرِئ: "من تحتها الأنهار" بزيادة "من" وقوله: {وَمَا
خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ، وقُرِئ:
"والذكر والأنثى" بنقص "ما خلق".
والاختلاف بالتقديم والتأخير في مثل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ} ، وقُرِئ: "وجاءت سكرت الحق بالموت".. والاختلاف بالإبدال في
مثل قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} ، وقُرِئ:
"وتكون الجبال كالصوف المنفوش".
ولو كانت هذه الأحرف تشتمل عليها المصاحف العثمانية لما كان مصحف عثمان حاسمًا
للنزاع في اختلاف القراءات، إنما كان حسم هذا النزاع بجمع الناس على حرف واحد من الأحرف
السبعة التي نزل بها القرآن، ولولا هذا لظل الاختلاف في القراءة قائمًا، ولما كان هناك
فرق بين جمع عثمان وجمع أبي بكر. والذي دلت عليه الآثار أن جمع عثمان -رضي الله عنه-
للقرآن كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد،
حيث رأى أن القراءة بالأحرف السبعة كانت لرفع الحرج والمشقة في بداية الأمر. وقد انتهت
الحاجة إلى ذلك، وترجح عليها حسم مادة الاختلاف في القراءة، بجمع الناس على حرف واحد،
ووافقه الصحابة على ذلك. فكان إجماعًا. ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى
جمع القرآن على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في
زمن عثمان، وبهذا يكون عثمان قد وُفِّقَ لأمر عظيم. رفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح
الأمة.
ويُجاب عن الرأي الخامس "هـ" الذي يرى أن العدد سبعة لا مفهوم له,
بأن الأحاديث تدل بنصها على حقيقة العدد وانحصاره: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته،
فلم أزل استزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" متفق عليه، "وإن ربي أرسل
إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هوِّن على أمتي, فأرسل إليَّ أن اقرأ
على سبعة أحرف" مسلم . فهذا يدل على حقيقة العدد المعيَّن المحصور في سبعة.
ويُجاب عن الرأي السادس "و" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة القراءات
السبع, بأن القرآن غير القراءات، فالقرآن: هو الوحي المنزَّل على محمد -صلى الله عليه
وسلم- للبيان والإعجاز، والقراءات: هي اختلاف في كيفية النطق بألفاظ الوحي، من تخفيف
أو تثقيل أو مد أو نحو ذلك، قال أبو شامة: "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة
الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض
أهل الجهل".
وقال الطبري: "وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين
حرف وتحريكه ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي, صلى الله عليه
وسلم: "أُمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف" بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف
من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري
به في قول أحد من علماء الأمة، وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر، من
الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرت عنه بذلك الرواية".
ولعل الذي أوقعهم في هذا الخطأ الاتفاق في العدد سبعة، فالتبس عليهم الأمر.
قال ابن عمار: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة
بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص على
السبعة أو زاد ليزيل الشُّبهة".
وبهذه المناقشة يتبين لنا أن الرأي الأول "أ" الذي يرى أن المراد
بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد هو الذي يتفق مع ظاهر النصوص،
وتسانده الأدلة الصحيحة.
عن أُبَيِّ بن كعب قال:قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله
أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني، قال: اقرأ على حرفين،
فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة، كلها شاف
كاف" مسلم .
قال الطبري: "والسبعة الأحرف: هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة، والأبواب
السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل،
التي إذا عمل بها العامل، وانتهى إلى حدودها المنتهى، استوجب به الجنة، وليس -والحمد
لله في قول من قال ذلك من المتقدمين- خلافٌ لشيء مما قلناه" ومعنى: "كلها
شاف كاف" كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}..
جعله الله للمؤمنين شفاء، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان
وخطراته، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته".
حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف:
تتلخص حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف في أمور:
1- تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان ولا عهد لهم بحفظ
الشرائع، فضلًا عن أن يكون ذلك مما ألفوه -وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث في عبارات:
عن أُبَيٍّ قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء
فقال: إني بُعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم والشيخ العاس والعجوز، فقال جبريل:
فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف"أحمد صحيح ، "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن
على حرف، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي" , "إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن
على حرف"، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"
.
2- إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب, فتعدد مناحي التأليف
الصوتي للقرآن تَعدُّدًا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب
حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز
الذي تحدى به الرسول العرب ومع اليأس من معارضته لا يكون إعجازًا للسان دون آخر، وإنما
يكون إعجازًا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب.
3- إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه -فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات
يتهيأ معه استنباط الأحكام التي تجعل القرآن ملائمًا لكل عصر- ولهذا احتج الفقهاء في
الاستنباط والاجتهاد بقراءات الأحرف السبعة.
و الله الموفق لا رب سواه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق