Translate

2014-09-16

الدرس الثالث : من سلسلة دروس علوم القرآن .

بسم الله الرحمن الرحيم :


الدرس الثالث : 
من سلسلة دروس علوم القرآن  .

مقدمة :

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
والحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛ إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً، يجب عليه شكره بها.
ولا يبلغ الواصفون كُنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.
أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعِز جلاله.
وأستعينه استعانةَ من لا حول له ولا قوة إلا به.
وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.
وأستغفره لما أَزلفت وَأَخرت: استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي :

سبق تعريف القرآن ، و لكي نعرف الفرق بينه و بين الحديث القدسي و الحديث النبوي نعطي التعريفين الآتيين:

الحديث النبوي:

الحديث في اللغة: ضد القديم ، و يُطلق و يراد به كلام يُتحدث به و يُنقل و يَبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، و بهذا المعنى سُمِّيَ القرآن حديثًا: [ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا] ، و سُمِّيَ ما يُحَدَّثُ به الإنسان في نومه: [ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ] .
و الحديث في الاصطلاح : ما أُضِيفَ إلى النبي - صلى الله عليه و سلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.
فالقول: كقوله ، صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى..".
والفعل : كالذي ثبت من تعليمه لأصحابه كيفية الصلاة ثم قال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" ، وما ثبت من كيفية حجه، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" .
و الإقرار: كأن يُقِرَّ أمرًا عَلِمَهُ عن أحد الصحابة من قول أو فعل. سواء أكان ذلك في حضرته -صلى الله عليه وسلم- أما في غيبته ثم بلغه ، و من أمثلته : "أكل الضبّ على مائدته ، صلى الله عليه وسلم"، "وما رُوِي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلا على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ ] ، فلما رجعوا ذكروا ذلك له عليه الصلاة والسلام ، فقال : سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه" .
و الصفة: كما رُوِيَ : "من أنه -صلى الله عليه وسلم- كان دائم البِشر ، سهل الخُلُق ، لَيِّنَ الجانب ، ليس بفظٍّ و لا غليظٍ و لا صخَّاب و لا فحَّاش و لا عيَّاب...".

الحديث القدسي:

عرَّفنا معنى الحديث لغة ، و القدسي: نسبة إلى القُدُسْ ، و هي نسبة تدل على التعظيم ، لأن مادة الكلمة دالة على التنزيه والتطهير في اللغة ، فالتقديس: تنزيه الله تعالى ، و التقديس: التطهير ، و تقدَّس: تطهَّر ، قال الله تعالى على لسان ملائكته: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ] أي ننزهك و نبرئك ما يضيفه إليك أهل الشرك بك ، و قيل : نُطَهِّرُ أنفسنا لك ، و قال قتادة : التقديس ، الصلاة ، و قال بعضهم : نقدس لك أي نعظمك و نمجدك.
و الحديث القدسي في الاصطلاح: هو ما يضيفه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى ، أي إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه على أنه من كلام الله ، فالرسول راوٍ لكلام الله بلفظ من عنده ، و إذا رواه أحدٌ رواه عن رسول الله مُسْنَدًا إلى الله عز وجل ، فيقول: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل....".
أو يقول : "قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى - أو يقول الله تعالى...".
و مثال الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل:"يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحَّاء الليل والنهار...". أخرجه البخاري .
ومثال الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى "أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه...". متفق عليه.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي:

هناك عدة فروق بين القرآن الكريم والحديث القدسي أهمها:
1- أن القرآن الكريم كلام الله أَوْحَى به إلى رسول الله بلفظه ، و تحدى به العرب ، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، و لا يزال التحدي به قائمًا ، فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين. و الحديث القدسي لم يقع به التحدي و الإعجاز.
2- و القرآن الكريم لا يُنْسَب إلا إلى الله تعالى ، فيقال : قال الله تعالى.
و الحديث القدسي -كما سبق- قد يُرْوَى مضافًا إلى الله و تكون النسبة إليه حينئذ نسبة إنشاء فيقال : قال الله تعالى ، أو: يقول الله تعالى ، و قد يُرْوَى مضافًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتكون النسبة حينئذ نسبة إخبار لأنه عليه الصلاة والسلام هو المُخْبِرُ به عن الله، فيقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل.
3- و القرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر ، فهو قطعي الثبوت ، و الأحاديث القدسية أكثرها أخبار آحاد ، فهي ظنية الثبوت. و قد يكون الحديث القدسي صحيحًا ، و قد يكون حسنًا ، و قد يكون ضعيفًا.
4- و القرآن الكريم من عند الله لفظًا و معنًى ، فهو وحي باللفظ و المعنى.
و الحديث القدسي معناه من عند الله ، و لفظه من عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح فهو وحي بالمعنى دون اللفظ ، و لذا تجوز روايته بالمعنى عند جمهور المحدِّثين.
5- و القرآن الكريم مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة: [ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ] ، وقراءته عبادة يُثيب الله عليها بما جاء في الحديث : "من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف ، و لكن ألف حرف، و لام حرف ، و ميم حرف" .
و الحديث القدسي لا يجزئ في الصلاة ، و يثيب الله على قراءته ثوابًا عامًّا ، فلا يصدق فيه الثواب الذي ورد ذكره في الحديث على قراءة القرآن ، بكل حرف عشر حسنات.

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي:

الحديث النبوي قسمان:
"قسم توقيفي" و هو الذي تلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مضمونه من الوحي فبيَّنه للناس بكلامه ، و هذا القسم و إن كان مضمونه منسوبًا إلى الله فإنه -من حيث هو كلام- حَرِي بأن يُنسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن الكلام إنما يُنسب إلى قائله و إن كان ما فيه من المعنى قد تلقاه عن غيره.
و"قسم توفيقي"، [ أي اجتهادي ] : و هو الذي استنبطه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فهمه للقرآن ، لأنه مبيِّن له ، أو استنبطه بالتأمل و الاجتهاد . و هذا القسم الاستنباطي الاجتهادي يقره الوحي إذا كان صوابًا ، و إذا وقع فيه خطأ جزئي نزل الوحي بما فيه الصواب[ و مثاله ما كان في أسرى بدر ، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ برأي أبي بكر و قبل منهم الفداء ، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له: [ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ] الأنفال: 67 . و ليس هذا القسم كلام الله قطعًا.
و يتبين من ذلك : أن الأحاديث النبوية بقسميها: التوقيفي ، و التوفيقي الاجتهادي الذي أقره الوحي ، يمكن أن يقال فيها إن مردها جميعًا بجملتها إلى الوحي ، و هذا معنى قوله تعالى في رسولنا ، صلى الله عليه وسلم: [ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ] ،
و الحديث القدسي معناه من عند الله عز وجل ، يُلْقَى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكيفية من كيفيات الوحي -لا على التعيين- أما ألفاظه فمن عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الراجح و نسبته إلى الله تعالى نسبة لمضمونه لا نسبة لألفاظه ، و لو كان لفظه من عند الله لما كان هناك فرق بينه و بين القرآن ، و لَوقع التحدي بأسلوبه و التعبد بتلاوته .
و يرد على هذا شبهتان! 


الشبهة الأولى: أن الحديث النبوي وحي بالمعنى كذلك، واللفظ من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلماذا لا نسميه قدسيًّا أيضًا؟
والجواب: أننا نقطع في الحديث القدسي بنزول معناه من عند الله لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله بقوله, صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى" ولذا سميناه قدسيًّا، بخلاف الأحاديث النبوية فإنها لم يرد فيها مثل هذا النص، ويجوز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلَّمًا بالوحي "أي توقيفيًّا" وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد "أي توفيقيًّا" ولذا سمينا الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحد المقطوع به، ولو كان لدينا ما يميز الوحي التوقيفي لسميناه قدسيًّا كذلك.
الشبهة الثانية: أنه إذا كان لفظ الحديث القدسي من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما وجه نسبته إلى الله بقوله ، صلى الله عليه وسلم : "قال الله تعالى ، أو يقول الله تعالى".
و الجواب : أن هذا سائغ في العربية ، حيث ينسب الكلام باعتبار مضمونه لا باعتبار ألفاظه ، فأنت تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: يقول الشاعر كذا ، و حينما تحكي ما سمعته من شخص : يقول فلان كذا ، و قد حكى القرآن الكريم عن موسى و فرعون و غيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم ، و أسلوب غير أسلوبهم ، و نسب ذلك إليهم: [ وَ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ، وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ، فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ, قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ].



3- الوحي:
إمكانية الوحي ووقوعه:

ازدهرت الحياة العلمية و بددت أشعتها كل ريبة كانت تساور الناس إلى عهد قريب فيما وراء المادة من روح ، و آمن العلم المادي الذي وضع جل الكائنات تحت التجربة والاختبار بأن هناك عالمًا غيبيًّا وراء هذا العالمَ المشاهَد ، و أن عالَم الغيب أدق و أعمق من عالَم الشهادة ، و أكثر المخترعات الحديثة التي أخذت بألباب الناس تحجب وراءها هذا السر الخفي الذي عجز العلم عن إدراك كنهه و إن لاحظ آثاره و مظاهره ، و قَرَّبَ هذا بُعْدَ الشقة بين التنكر للأديان و الإيمان بها مصداقًا لقوله تعالى: [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ] ، و قوله: [ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ]..
و ليس ببعيد على الله تعالى أن يختار من عباده نفوسًا لها من نقاء الجوهر و سلامة الفطرة ما يعدها للفيض الإلهي ، و الوحي السماوي ، و الاتصال بالملأ الأعلى ، ليُلقي إليها برسالاته التي تسد حاجة البشر في رقي وجدانه ، و سمو أخلاقه ، و استقامة نظامه ، و هؤلاء هم رسله و أنبياؤه.
و لا غرابة في أن يكون هذا الاتصال بالوحي السماوي.
و قد شاهد الوحي معاصروه ، و نُقِلَ بالتواتر المستوفي لشروطه بما يفيد العلم القطعي إلى الأجيال اللاحقة ، و لمست الإنسانية أثره في حضارة أمته ، و قوة أتباعه ، و عزتهم ما استمسكوا به و انهيار كيانهم و خذلانهم ما فرَّطوا في جنبه ، مما لا يدع مجالًا للشك في إمكان الوحي وثبوته. و ضرورة العودة إلى الاهتداء به إطفاء للظمأ النفسي بِمُثُلِهِ العليا ، و قيمه الروحية.
و لم يكن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أول رسول أُوحِيَ إليه ، بل أَوْحَى الله تعالى إلى الرسل قبله بمثل ما أَوْحَى إليه: [ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ عِيسَى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ، وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ] .
فليس هناك في نزول الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إلى العجب ، و لذا أنكر الله على العقلاء هذا في قوله: [ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ] . 


معنى الوحي:


يقال: وحيت إليه وأوحيت: إذا كلَّمته بما تخفيه عن غيره ، و الوحي: الإشارة السريعة ، و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، و قد يكون بصوت مجرد، و بإشارة ببعض الجوارح.

والوحي مصدر ، و مادة الكلمة تدل على معنيين أصليين ، هما: الخفاء و السرعة ، و لذا قيل في معناه: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجَّه إليه بحيث يخفى على غيره، وهذا معنى المصدر، ويُطلق ويُراد به الوحي، أي بمعنى اسم المفعول. والوحي بمعناه اللغوي يتناول:
1- الإلهام الفطري للإنسان ، كالوحي إلى أُم موسى [ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ] .
2- و الإلهام الغريزي للحيوان ، كالوحي إلى النحل [ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ].
3- و الإشارة السريعة على سبيل الرمز و الإيحاء كإيحاء زكريا فيما حكاه القرآن عنه: [ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا] .
4- ووسوسة الشيطان و تزيينه الشر في نفس الإنسان: [ وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ] ، [ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا] .
5- و ما يُلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه: [ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ].
ووحي الله إلى أنبيائه قد عرَّفوه شرعًا بأنه : كلام الله تعالى المُنَزَّلُ على نبي من أنبيائه. و هو تعريف له بمعنى اسم المفعول أي الموحى.
و الوحي بالمعنى المصدري اصطلاحًا : هو إعلام الله تعالى مَن يصطفيه من عباده ما أراد من هداية بطريقة خفية سريعة.
و بأن الإلهام: وجدان تستيقنه النفس فتنساق إلى ما يُطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع و العطش والحزن والسرور .
و هو تعريف للوحي بالمعنى المصدري ، و بدايته و إن كانت توهم شبهه بحديث النفس أو الكشف ، إلا أن الفرق بينه و بين الإلهام الذي جاء في عجز التعريف ينفي هذا.
كيفية وحي الله إلى ملائكته:
1- جاء في القرآن الكريم ما ينص على كلام الله لملائكته: [ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ].
وعلى إيحائه إليهم: [ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ].
و على قيامهم بتدبير شئون الكون حسب أمره: [ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ] ، [ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ].
وهذه النصوص متآزرة تدل على أن الله يُكَلِّمُ الملائكة دون واسطة بكلام يفهمونه.
و يؤيد هذا ما جاء في الحديث عن النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ، أخذت السموات منه رجفة أو قال: رعدة- شديدة - خوفًا من الله عز وجل ، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا و خرُّوا لله سجَّدًا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيُكَلِّمُهُ الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: " قال الحق و هو العلي الكبير" فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" .
فهذا الحديث يبين أن كيفية الوحي تكلم من الله ، و سماع من الملائكة ، وهول شديد لأثره ، و إذا كان ظاهره -في مرور جبريل و انتهائه بالوحي- يدل على أن ذلك خاص بالقرآن فإن صدره يبين كيفية عامة ، و أصله في الصحيح: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضرب الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان" ..
2- و ثبت أن القرآن الكريم كُتِبَ في اللَّوح المحفوظ لقوله تعالى: [ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ].
كما ثبت إنزاله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان: [ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ] ، [ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ]، [ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ]..
و في السٌّنَّة ما يوضح هذا النزول ، و يدل على أنه غير النزول الذي كان على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن ابن عباس موقوفًا: " أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم أُنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ : [ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ] ، [ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ] ، و في رواية: "فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي ، صلى الله عليه و سلم .
ولذلك ذهب العلماء في كيفية وحي الله إلى جبريل بالقرآن إلى المذاهب الآتية:
أ- أن جبريل تلقفه سماعًا من الله بلفظه المخصوص.
ب- أن جبريل حفظه من اللَّوح المحفوظ.
جـ- أن جبريل أُلقي إليه المعنى – و الألفاظ لجبريل ، أو لمحمد ، صلى الله عليه و سلم.
والرأي الأول هو الصواب ، و هو ما عليه أهل السٌّنَّة و الجماعة ، و يؤيده حديث النوَّاس بن سمعان السابق.
ونسبة القرآن إلى الله في أكثر من آية: [ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ]..
[ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ].. [ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ].
فالقرآن الكريم كلام الله بألفاظه لا كلام جبريل أو محمد.
أما الرأي الثاني فلا اعتبار له ، إذ إن ثبوت القرآن في اللَّّوح المحفوظ كثبوت سائر المغيبات التي لا يخرج القرآن عن أن يكون من جملتها.
و الرأي الثالث أنسب بالسٌّنَّة لأنها وحي من الله أُوحي إلى جبريل ، ثم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى ، فعبَّر عنه رسول الله بعبارته: [ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى].. و لذا جازت رواية السٌّنَّة بالمعنى لعارف بما لا يحيل المعاني دون القرآن..
و يُجاب على من قال: إنه كلام جبريل ، بأن هذا قول فاسد لوجوه:
أحدها: أن المسلمين أجمعين إذا تلوا آية قالوا: قال الله تعالى ، و لو كان هذا قول جبريل لقالوا : قال جبريل.
الثاني: أن هذا الذي بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين هو كتاب الله ، و على قولهم فإنه يكون كتاب جبريل.
الثالث: أن الله تعالى قال: [ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ]. و على قولهم ، ما نزَّله من ربك ، إنما نزَّله من كلام نفسه.
الرابع: أن الله تعالى قال: [ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ ] ، و قال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ] .. و على قولهم لا يكون هذا صحيحًا ، و إنما يكون المسموع كلام جبريل.
ويُجاب على من قال: إنه كلام محمد بأن هذا باطل لتلك الوجوه الآنفة الذكر كلها. و من وجه آخر ، فإنهم وافقوا الوليد بن المغيرة في قوله: [ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ]، فدخلوا معه في الوعيد بقوله تعالى: [ سأصليه سَقَرَ ].
و يرد عليهم من الجواب ما أجاب الله تعالى به المشركين بقوله سبحانه: [ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ].
و سبق أن ذكرنا الفرق بين القرآن و الحديث القدسي والحديث النبوي.
فمن خصائص القرآن:
1- أنه مُعْجِز.
2- قطعي الثبوت.
3- يُتَعَبَّدُ بتلاوته.
4- و يجب أداؤه بلفظه ، و الحديث القدسي -على القول بنزول لفظه- ليس كذلك.
و الحديث النبوي قسمان: الأول: ما اجتهد فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- و هذا ليس وحيًا و يكون إقرار الوحي له بسكوته إذا كان صوابًا.
و الثاني: ما أُوحِيَ إليه بمعناه و اللَّفظ لرسول الله ، و لذا يجوز روايته بالمعنى. و الحديث القدسي -على القول الراجح بنزول معناه دون لفظه- يكون من هذا القسم و نسبته إلى الله في الرواية لورود النص الشرعي على ذلك دون الأحاديث النبوية.
كيفية وحي الله إلى رسله:
يوحي الله إلى رسله بواسطة و بغير واسطة.
فالأول: بواسطة جبريل مَلك الوحي و سيأتي بيانه.
و الثاني: هو الذي لا واسطة فيه.
أ- منه الرؤيا الصالحة في المنام: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". و كان ذلك تهيئة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينزل عليه الوحي يقظة و ليس في القرآن شيء من هذا النوع لأنه نزل جميعه يقظة ، خلافًا لمن ادَّعى نزول سورة "الكوثر" منامًا للحديث الوارد فيها ، ففي صحيح مسلم عن أنس ، رضي الله عنه: " بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا فقلت: ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال: "نزلت عليَّ آنفًا سورة" ، فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ].. فلعل الإغفاء هذه هي الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي.
ومما يدل على أن الرؤية الصالحة للأنبياء في المنام وحي يجب اتباعه ما جاء في قصة إبراهيم من رؤيا ذبحه لولده إسماعيل : [ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ , فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ, فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ, وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ, قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ, وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ, وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ, سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ, كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ, وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ]. و لو لم تكن هذه الرؤيا وحيًا يجب اتباعه لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده لولا أن منَّ الله عليه بالفداء.
الرؤيا الصالحة ليست خاصة بالرسول ، فهي باقية للمؤمنين ، و إن لم تكن وحيًا ، قال عليه الصلاة والسلام: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات ، رؤيا المؤمن".
و الرؤيا الصالحة في المنام للأنبياء هي القسم الأول من أقسام التكليم الإلهي المذكور في قوله تعالى:
[ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ].
ب- ومنه الكلام الإلهي من وراء حجاب بدون واسطة يقظة ، و هو ثابت لموسى عليه السلام : [ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ] ، [ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ].
كما ثبت التكلم على الأصح لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء و المعراج.
وهذا النوع هو القسم الثاني المذكور في الآية: [ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ، وليس في القرآن شيء منه كذلك.
كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول:
وحي الله إلى أنبيائه إما أن يكون بغير واسطة، وهو ما ذكرناه آنفًا. وكان منه الرؤيا الصالحة في المنام ، و الكلام الإلهي من وراء حجاب يقظة ، وإما أن يكون بواسطة مَلَك الوحي وهو الذي يعنينا في هذا الموضوع لأن القرآن الكريم نزل به.
ولا تخلو كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: وهي أشد على الرسول، أن يأتيه مثل صلصلة الجرس ، والصوت القوي يثير عوامل الانتباه فتُهَيَّأ النفس بكل قواها لقبول أثره ، فإذا نزل الوحي بهذه الصورة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية لتلقيه وحفظه وفهمه، وقد يكون هذا الصوت حفيف أجنحة الملائكة المشار إليه في الحديث: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كالسلسلة على صفوان" .
وقد يكون صوت المَلَكِ نفسه في أول سماع الرسول له.
و الحالة الثانية: أن يتمثل له المَلَكُ رجلًا ويأتيه في صورة بشر، وهذه الحالة أخف من سابقتها، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع، ويأنس رسول النبوَّة عند سماعه من رسول الوحي، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان.
والهيئة التي يظهر فيها جبريل بصورة رجل لا يتحتم فيها أن يتجرد من روحانيته ، ولا يعني أن ذاته انقلبت رجلًا ، بل المراد أنه يظهر بتلك الصورة البشرية أُنْسًا للرسول البشري، ولا شك أن الحالة الأولى -حالة الصلصلة- لا يوجد فيها هذا الإيناس، وهي تحتاج إلى سمو روحي من رسول الله يتناسب مع روحانية المَلَكِ فكانت أشد الحالتين عليه، لأنها كما قال ابن خلدون: "انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالمَلَكِيَّةِ الروحانية، والحالة الأخرى عكسها لأنها انتقال المَلَكِ من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية".
وكلتا الحالتين مذكور فيما رُوِيَ عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : "يا رسول الله.. كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي المَلَكُ رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول" .
وروت عائشة رضي الله عنها ما كان يصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شدة فقالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا".
والحالتان هما القسم الثالث من أقسام التكليم الإلهي المشار إليه في الآية: [ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
1- إِلَّا وَحْيًا
2- أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
3- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ]..
أما النفث في الرُّوع -أي القلب- فقد ذُكِرَ في قول الرسول ، صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب". و الحديث لا يدل على أنه حالة مستقلة ، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة ، فيأتيه المَلَكُ في مثل الصلصلة وينفث في روعه ، أو يتمثل له رجلًا وينفث في روعه ، و ربما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم.

فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة ، فيأتيه المَلَكُ في مثل الصلصلة وينفث في روعه ، أو يتمثل له رجلًا وينفث في روعه ، و ربما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم.
إلى هنا انتهى شرح الدرس الثالث ، و الله المستعان لا رب سواه .


و إلى لقاء آخر متجدد مع درس جديد ، استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق