Translate

2014-10-27

الدرس الحادي عشر من سلسلة دروس علوم القرآن


                   بسم الله الرحمن الرحيم :

سلسلة دروس علوم القرآن .

الموضوع : تابع لأسباب نزول القرآن .

مدخل تمهيدي ، لنزول القرآن:

أنزل الله القرآن على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهداية البشرية ، فكان نزوله حدثًا جللًا يؤذن بمكانته لدى أهل السماء وأهل الأرض، فإنزاله الأول في ليلة القدر أشعر العالم العُلوي من ملائكة الله بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الجديدة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتنزيله الثاني مفرَّقًا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السماوية قبله آثار الدهشة التي حملت القوم على المماراة فيه، حتى أسفر لهم صبح الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهية، فلم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتلقى الرسالة العظمى جملة واحدة ويُقنع بها القوم مع ما هم عليه من صَلَفٍ وعِناد، فكان الوحي يتنزل عليه تباعًا تثبيتًا لقلبه، وتسلية له، وتدرجًا مع الأحداث والوقائع حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة.

نزول القرآن جملة:

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .

ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} .

ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} .

ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث، فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان، إنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث نزل القرآن عليه في ثلاث وعشرين سنة.. وللعلماء في هذا مذهبان أساسيان:

 1- المذهب الأول: وهو الذي قال به ابن عباس وجماعة وعليه جمهور العلماء: أن المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثلاث نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيمًا لشأنه عند ملائكته، ثم نزل بعد ذلك مُنَجَّمًا على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة ، حسب الوقائع والأحداث منذ بعثته إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أقام في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات: فعن ابن عباس قال: "بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه، ثم أُمِرَ بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين".

وهذا المذهب هو الذي جاءت به الأخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات:

أ- عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر. ثم أُنزل بعد ذلك في عشرين سنة, ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} .. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} ..

ب- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي, صلى الله عليه وسلم".

جـ- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله يُنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض".
د- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أُنزل نُجومًا"1.
2- المذهب الثاني: وهو الذي رُوِيَ عن الشعبي : أن المراد بنزول القرآن في الآيات الثلاث ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر في شهر رمضان، وهي الليلة المباركة، ثم تتابع نزوله بعد ذلك متدرجًا مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة، فليس للقرآن سوى نزول واحد هو نزوله مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن هذا هو الذي جاء به القرآن: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} ، وجادل فيه المشركون الذين نُقِلَ إليهم نزول الكتب السماوية السابقة جملة واحدة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . ولا يظهر للبشر مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إلا إذا كان المراد بالآيات الثلاث نزول القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يوافق ما جاء في قوله تعالى بغزوة بدر: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقد كانت غزوة بدر في رمضان. ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي، عن عائشة قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- فتزوده لمثلها، حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء. فجاءه المَلَكُ فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فقلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني" فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ، فغَطَّنِي الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني" فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ، فغَطَّنِي الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .. حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} " . فإن المحققين من الشراح على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نُبِئ أولًا بالرؤيا في شهر مولده شهر ربيع الأول، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أُوِحي إليه يقظة في شهر رمضان بـ "اقرأ" وبهذا تتآزر النصوص على معنًى واحد.

3- وهناك مذهب ثالث: يرى أن القرآن أُنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر2 في كل ليلة منها ما يُقَدِّرُ الله إنزاله في كل السنة، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع السنة.

وهذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين، ولا دليل عليه.

أما المذهب الثاني الذي رُوِيَ عن الشعبي فأدلته -مع صحتها والتسليم بها- لا تتعارض مع المذهب الأول الذي رُوِيَ عن ابن عباس. فيكون نزول القرآن جملة وابتداء نزوله مفرقًا في ليلة القدر من شهر رمضان، وهي الليلة المباركة.
فالراجح أن القرآن الكريم له تنزلان:
الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا.
والثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة.
وقد نقل القرطبي عن مقاتل بن حيان حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة واحدة من اللَّوْحِ المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ونفى ابن عباس التعارض بين الآيات الثلاث في نزول القرآن والواقع العملي في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة بغير شهر رمضان: عن ابن عباس:
"أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، و في المحرم وصفر وشهر ربيع ، فقال ابن عباس: إنه أُنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أُنزل على مواقع النجوم  رَسْلًا ، في الشهور والأيام".

وأشار بعض العلماء إلى حكمة ذلك في تعظيم شأن القرآن، وتشريف المنزَّل عليه، قال السيوطي: "قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لينزله عليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم مُنَجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزَّلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا، تشريفًا للمُنَزَّل عليه". وقال السخاوي في جمال القراء: "في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنه عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تُشَيِّع سورة الأنعام ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السَّفَرَةِ الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له".

4- ومن العلماء مَن يرى أن القرآن نزل أولًا جملة إلى اللَّوح المحفوظ مستدلًَا بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيد فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .. ثم نزل من اللَّوح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة، ثم نزل مفرقًا، فهذه تنزلات ثلاثة.

وهذا لا يتعارض مع ما سبق أن رجحناه، فالقرآن الكريم مثبت في اللَّوح المحفوظ شأن سائر المغيبات المثبتة فيه، والقرآن الكريم نزل جملة من اللَّوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا -كما رُوِيَ عن ابن عباس- في ليلة القدر، والقرآن الكريم بدأ نزوله مُنَجَّمًا -كما يرى الشعبي- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة المباركة ليلة القدر من شهر رمضان، إذ لا مانع يمنع من نزوله جملة، ومن ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفرَّقًا في ليلة واحدة، وبهذا ينتفي التعارض بين الأقوال كلها إذا استثنينا المذهب الاجتهادي الثالث الذي لا دليل له.

يتبع إن شاء الله تعالى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق