بسم الله الرحمن الرحيم :
أيها الإخوة الكرام ، أبناء الإسلام الأماجد :
إن
بناء الدولة التي تجسد أهداف الرسالة في واقع الحياة ، و تحمي الدعوة ، و
تمكنها من أداء مهمتها في التبليغ و البيان و إقامة الحجة على الناس كان
هدفا اْساسيا بالنسبة للمسلمين الأوائل ، سادات الأمم و قادة الفتح المبين
، ليقينهم أنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقآن و ليس هناك وازع آخر
أقدر على حمل الناس على مفارقة عوائدهم و تقاليدهم و أهوائهم الفاسدة ، و
الانصياع للحق و الثبات عليه غير سلطان الدولة ، و هو ما قرّره ابن خلدون
حينما نص في مقدمته على أن " الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم ".
فالسلطان الذي تجسّده الدولة كقوة ردع و زجر للمستهترين بأحكام الشريعة و حماية الأفراد و إنفاذ الأوامر الشرعية ، هو الذي يوفّر لأبناء الإسلام شروط الحركة الحرّة الفعّالة في جميع الاتجاهات ، و يحافظ على منجزات المسلمين في جميع الميادين و خاصة الدعوية ، التي بدونها تظل عرضة للاستضعاف و الإتلاف و الهدر .
.ولهذا كان الإعداد لبناء دولة للمسلمين بالمدينة منذ وقت مبكر من الهجرة إليها ، اهتماما رئيسا من اهتماماته عليه الصلاة و السلام ، فلقد ظل طيلة الفترة المكية يعمل على توفير شروطه الموضوعية من البناء العقدي للصحابة رضي الله عنهم ، نواة قادة الإسلام ، التي سيرتكز عليها البناء لاحقا ، و بالتوازي مع هذا كان يعمل صلى الله عليه وسلم لاستكمال ما في الشروط الأخرى ، و خاصة ما يتعلق منها بالأرض التي ستقوم عليها الدولة .
فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن تحقّق على يديه و بفضل الله تعالى ، نتائج مهمة على مستوى إعداد القاعدة الصلبة من أولئك الرجال الذين ربّاهم على عينه وشحنهم بزاد لا ينفد من الإيمان و العقيدة و هو قطب الرحى لجميع الأعمال صغيرة كانت أو كبيرة ، بله المفصلية و الهامّة ، فما بالك بما يرتبط به مصير الإسلام و دعوته الفتية من وجوب إيجاد ما يحمي ظهرها من عوادي الأيام ، و أعداء الإنس و الجن الذين يخطّطون ليلا و نهارا لا يفترون لكبت الدعوة و أصحابها
و لذا نقول لقد أخطأ من تبنى – لأسباب متعددة – فكرة كون الإسلام ليس له دولة ، و هو يقصد بذلك أن الاسلامدين جاء لمحو الخرافات و الخزعبلات التي كان عليها أهل الجاهلية و يصحّح علاقتهم بالله فقط ، و لم يعمل على إقامة دولة تحكم بالاسلام ، و بعضهم يقول أن بناء الدولة إنما أخذ يتبلور كمشروع و فكرة بعد الهجرة ، حينما رأى رسول الله عليه الصلاة و السلام أنه صار و أصحابه في منعة .
ويبدو خطأ هذا التوجه في النظرة إلى مفهوم الاسلام للحياة ، في أنه ينطلق من مرجعيته الغربية التي تنظر إلى الدين عموما على أنه علاقة شخصية بين الفرد وربه ، لا سلطان له على واقع الحياة و المؤسسة ، و على الفصل بين السلطة الروحية و الزمنية للحياة ، كما يقرّ بذلك الفكر المسيحي المنحرف ( أعط ما لقيصر لقصير ، و ما لله لله ) . فافتروا على عيسى عليه السلام عبد الله و رسوله أنه أقر بوجود سلطة تشارك الله في التشريع للناس ، هي سلطة قيصر ، و مما زاد تعميق هذا الأمر في العقلية الغربية هو ذلك الصراع الرهيب الذي دار بين الكنيسة المنحرفة ، و فكر النهضة الأوربية الحديثة مما أدى ليس فقط إلى عزل الدين و تهميشه ، بل إلى الثورة عليه ، كما تجلّى ذلك في موجة الإلحاد التي اجتاحت الحياة الغربية عن طريق الشيوعية و الوجودية ، و هذه النظرة الغربية التي امتد تأثيرها – بحكم هيمنة النموذج الغربي على العالم المعاصر – إلى كل شيء في حياتنا ، جعلت هذه المواقف و التوجهات تتسرب إلى كثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي الذين أصبحوا يرددون أقوال المستشرقين و علماء الغرب و يتبنون أطروحاتهم ، و يحكمونها في النظر إلى الاسلام ، بل للأسف الشديد وصل هذا الفكر المنحرف إلى المشايخ و الأساتذة الذين تخرّجوا من الجامعات الاسلامية فتراهم و تسمعهم يقرّرون دون خوف و لا وجل من الله ، أنه لا يوجد في الاسلام سلطة سياسية ، و من ثم فلا مبرر لوجود دولة باسم الاسلام ، و على رأس هؤلاء الشيخ الدكتور علي عبد الرزاق ، و الشيخ خالد محمد خالد ، و غيرهم كثير ، إلا أن الأخير تراجع في أخريات أيامه و أعلنها بصراحة أنه كان مخطئا في تصوراته ، لأنه تأثَّر بالفكر الغربي ، و صراعه مع الكنيسة و قال : ( وأنا الآن أعتقد أن الاسلام دين و دولة ) .
من العجائب :
ومن عجيب الأمور أن يصل بعض علماء الغرب إلى نتيجة مفادها أن الاسلام زيادة على كونه دين فهو يحتوي على نظم قانونية و سياسية و ترى و تسمع لمن يتسمون بأسماء المسلمين و يعيشون في بلاد المسلمين يقولون بأنه لا سياسية في الدين و لا دين في السياسة ، الدّين لله و الأرض للجميع ، و أنه ليس هناك ما يسمّى دولة في المنظورالاسلامي .
يقول المستشرق شاخت : الاسلام أكثر من دين ، إنّه يمثل أيضا نظريات قانونية وسياسية.
ويقول المستشرق الشهير جيب : إن الاسلام مجتمع مستقل ، له أسلوبه المعين في الحكم ، و له قوانينه و أنظمته الخاصة به .
ولقد قرّر علماء المسلمين من قديم أنه لا بد من دولة و سلطان يحكمان شرع الله و يحرسان تطبيقه و إعلاء رايته ، و رفع منارته .
قال الامام الماوردي : الامامه موضوعة لخلافة النبوة وحراسة الدين وسياسةالدنيا .
وقال أبو حامد الغزالي : اعلم أن الشريعة أصل والملك حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لاحارس له فضائع.
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية : جميع الولايات في الاسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله و أن تكون كلمة الله هي العليا .
ا لخلاصة:
إنّ الاسلام كدين لا يفرّق بين أمور العقيدة و العبادة و أمور الحياة و الحكم و إنَّما يجمع بين هذا و ذاك ، و لا يفرّق بين أمور الدنيا و بين أمور الدين ، فمن رام وصف الاسلام بأنه دين لا يدعو إلى تكوين دولة فقد رام المحال من الطلب .
فمتى يعقل بنو قومنا و يرجعوا إلى شرع الله و يسوسوا المسلمين به ، ليرفع الله ذكرهم في الدنيا و الآخرة ، و يعزّهم على الأقوام الذين أذلوهم اليوم ؟
أم أن النفوس استمرأت الذل و الهوان فلا فرق عندها بين ذُلّ و عِزّ و بين ليل و نهار ؟
أم أنّهم يخاصمون ربَّ السماوات و الأراضين و لا يرتضون حكمه ؟!
سيظهر ذلك عاجلا أو آجلا ، و إلى الله المصير ، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
و الله المستعان لا رب سواه .
أخوكم أبوسميَّة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق