بسم الله الرحمن الرحيم :
الدرس الثامن من سلسلة دروس علوم القرآن .
إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله ، فلا مضلَّ له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله.
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ].
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى ، و خير الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و إن شرَّ الأمور محدثاتها ، و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ن وقانا الله تعالى من البدع و الضلالات ، و أهلهما من شياطين الإنس و الجن .
نكمل المشوار العلمي و الإيماني مع كتاب الله تعالى ، و في معرفة كل ما يتعلق بكلام ربنا العلي الأعلى ، و التعرض إلى نفحات الله تعالى ، بمدارسة علوم كتابه ، دستور المسلمين الخالد الذي أعرض عنه الناس جميعا إلا قلة قليلة [ من بينهم إخواننا في مسجد مدينة إيبيني ] ما زالت تحارب الكسل و الفتور و الخمول ، فتحاول أن تتعلم ما يقربها إلى ربها ، عسى أن تنجو بنفسها ، بعد أن أظلمت الأرض و جنباتها بالجهل المدوي الصارخ ، الذي يكاد ينادي أن المسلمين تركوا دينهم و جهلوا مصدره الأول ، فواغوثاه ... و اغوثاه ، و إلى الله المشتكى من قلوب تدعي الإيمان و هي غارقة في جهلها ، و الله المستعان لا رب سواه .
و الآن إلى درس جديد عنوانه : أسباب النزول .
مقدمة :
نزل القرآن ليهدي الإنسانية إلى المحجة الواضحة ، و يرشدها إلى الطريق المستقيم ، و يقيم لها أسس الحياة الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله و رسالاته ، و يقرر أحوال الماضي ، ووقائع الحاضر ، و أخبار المستقبل.
و أكثر القرآن نزل ابتداء لهذه الأهداف العامة ، و لكن الصحابة رضي الله عنهم في حياتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شاهدوا أحداث السيرة ، و قد يقع بينهم حادث خاص يحتاج إلى بيان شريعة الله فيه ، أو يلتبس عليهم أمر فيسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه لمعرفة حكم الإسلام فيه، فيتنزل القرآن لذلك الحادث ، أو لهذا السؤال الطارئ ، و مثل هذا يُعرف بأسباب النزول.
عناية العلماء به:
وقد اعتنى الباحثون في علوم القرآن بمعرفة سبب النزول، و لمسوا شدة الحاجة إليه في تفسير القرآن فأفرده جماعة منهم بالتأليف ، و من أشهرهم على : "علي بن المديني" شيخ البخاري ، ثم "الواحدي"[ أبو الحسن علي بن أحمد النحوي المفسر، توفي سنة 427 هجرية] ، في كتابه " أسباب النزول"، ثم "الجعبري"[ برهان الدين إبراهيم بن عمر، كان له عناية بعلوم القرآن، فألَّف "روضة الطرائف في رسم المصاحف" و"كنز المعاني" وهو شرح للشاطبية في القراءات، توفي سنة 732 هجرية ] ، الذي اختصر كتاب "الواحدي" بحذف أسانيده و لم يزد عليه شيئًا ، ثم شيخ الإسلام "ابن حجر" [هو أبو الفضل شهاب الدين الحافظ ابن حجر العسقلاني و اسمه أحمد بن علي ، ينسب إلى عسقلان بفلسطين . مع أنه ولد بالقاهرة و مات بها ، كان له المعرفة التامة بالحديث ، و اشتهر بعلومه ، وكتبه عمدة في هذا الفن، توفي سنة 852 هجرية ]، الذي ألَّف كتابًا في أسباب النزول اطلع السيوطي على جزء من مسودته و لم يتيسر له الوقوف عليه كاملًا ، ثم "السيوطي" [جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية ] ، الذي قال عن نفسه : "و قد ألَّفت فيه كتابًا حافلًا موجزًا محررًا لم يُؤلَّف مثله في هذا النوع ، سميته " لُباب المنقول في أسباب النزول" .
ما يُعْتَمد عليه في معرفة سبب النزول:
والعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة ، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي ، بل يكون له حكم المرفوع ، قال الواحدي : " لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ، ووقفوا على الأسباب ، و بحثوا عن علمها وجدُّوا في الطلب" و هذا هو نهج علماء السَّلف ، فقد كانوا يتورعون عن أن يقولوا شيئًا في ذلك دون تثبت ، قال "محمد بن سيرين"[ تابعي من علماء البصرة ، اشتهر بعلوم الحديث ، و تعبير الرؤيا ، و توفي سنة 110 هجرية ]: سَألتُ "عَبِيدَة"[ هو عَبيدة بالفتح- بن عمرو السلماني ، أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يلقه ، و كان ابن سيرين من أروى الناس عنه. ] عن آية من القرآن فقال: اتق الله و قل سدادًا ، ذَهبَ الذين يعلمُون فيما أنزلَ الله من القرآن ، و هو يعني الصحابة ، و إذا كان هذا هو قول "ابن سيرين" من أعلام علماء التابعين تحريًّا للرواية ، و دقة في النقل ، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة ، و لذا فإن المعتمد من ذلك فيما رُوِي من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند ، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول.
وذهب "السيوطي" إلى أن قول التابعي إذا كان صريحًا في سبب النزول فإنه يُقْبَل ، و يكون مُرسلًا ، إذا صح المُسْنَد إليه وكان من أئمة التفسير الذين أخذوا عن الصحابة كمجاهد و عِكرمة و سعيد بن جبير ، و اعتضد بمرسل آخر.
و قد أخذ "الواحدي" على علماء عصره تساهلهم في رواية سبب النزول ، و رماهم بالإفك و الكذب ، و حذَّرهم من الوعيد الشديد ، حيث يقول: " أمَّا اليومُ فكل أحد يخترعُ شيئًا ، و يختلق إفكًا و كذبًا ، ملقيًا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكّر في الوعيد للجاهل بسبب الآية ".
تعريف السبب:
وسبب النزول بعد هذا التحقيق يكون قاصرًا على أمرين:
1- أن تحدث حادثة فيتنَزَّلُ القرآن الكريم بشأنها ، و ذلك كالذي رُوِي عن ابن عباس قال: [ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ] الشعراء .. خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا ، فهتف: "يا صباحاه" ، فاجتمعوا إليه ، فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: ما جربنا عليك كذبًا ، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" ، فقال أبو لهب [هو : عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم. ] تبٍّا لك ، إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام ، فنزلت هذه السورة: [ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ] أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
2- أن يُسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فيتنَزَّلُ القرآن ببيان الحكم فيه ، كالذي كان من خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر[ الظِّهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي ، واختلفوا في غير هذه الصيغة ] منها زوجها أوس بن الصامت ، فذهبت تشتكي من ذلك ، عن عائشة قالت: "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة و يخفى علي بعضه و هي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و هي تقول: يا رسول الله ، أكل شبابي ونثرتُ له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك ، قالت: فما بَرِحَتْ حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: [ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ] و هو أوس بن الصامت [ أخرجه ابن ماجه وابن أبي حاتم ، و الحاكم وصححه ، و ابن مردويه، والبيهقي ].
ولا يعني هذا أن يلتمس الإنسان لكل آية سببًا، فإن القرآن لم يكن نزوله وقفًا على الحوادث والوقائع ، أو على السؤال والاستفسار ، بل كان القرآن يتنزل ابتداء ، بعقائد الإيمان ، وواجبات الإسلام ، و شرائع الله تعالى في حياة الفرد و حياة الجماعة ، قال "الجعبري": "نزل القرآن على قسمين : قسم نزل ابتداء ، و قسم نزل عقب واقعة أو سؤال".
ولذا يُعرَّف سبب النزول بما يأتي: "هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال".
ومن الإفراط في علم سبب النزول أن نتوسع فيه ، و نجعل منه ما هو من قبيل الإخبار عن الأحوال الماضية ، و الوقائع الغابرة ، قال السيوطي: "و الذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة ، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية ، كذكر قصة قوم نوح و عاد و ثمود و بناء البيت ونحو ذلك ، و كذلك ذكره في قوله: [ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا] سبب اتخاذه خليلًا ، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى".
فوائد معرفة سبب النزول:
لمعرفة سبب النزول فوائد أهمها:
1- بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة.
2 - تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللَّفظ ، و هي مسألة خلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح ، و قد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: [ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] ، فقد رُوِيَ أن مروان قال لبوَّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أُوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل يُعذب لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية ، إنما نزلت في أهل الكتاب . ثم تلا قوله تعالى: [ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ] ، الآية. قال ابن عباس: سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه و استحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه".
3 - إذا كان لفظ ما نزل عامًّا وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تُقصر التخصيص على ما عدا صورته ، و لا يصح إخراجها ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي ، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني ، و هذا هو ما عليه الجمهور و قد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ, يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ, يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} ، فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة، أو فيها وفي سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- "عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ... الآية: نزلت في عائشة خاصة" ، و عن ابن عباس في هذه الآية أيضًا: "هذه في عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة, ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ, إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف و إن كان مخُصَصًّا لعموم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} ، لا يتناول بالتخصيص مَن قذف عائشة ، أو قذف سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا توبة له ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي.
4- و معرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن ، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يُعرف سبب نزولها، قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها" و قال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" و قال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" ، و من أمثلة ذلك: ما أشكل على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، حتى أورد له ابن عباس سبب النزول.
ومثله آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ، فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض، لأن رفع الجُناح يفيد الإباحة لا الوجوب ، و ذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا بالظاهر [حكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إن السعي واجب وليس بركن و على تاركه دم – و قد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير و أنس بن مالك وابن سيرين.] و قد ردت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها ، و هو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية ، حيث كان على الصفا أساف ، وعلى المروة نائلة ، و هما صنمان ، و كان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: " عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد جُناحًا أن لا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت يابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوَّلتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، و لكنها إنما أنزلت ، أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يُهلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا و المروة في الجاهلية، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ... الآية. قالت عائشة: ثم قد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما".
5 - ويوضح سبب النزول مَن نزلت فيه الآية حتى لا تُحمل على غيره بدافع الخصومة والتحامل، كالذي ذُكِرَ في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، فقد أراد "معاوية" أن يستخلف "يزيد" وكتب إلى "مروان" عامله على المدينة بذلك، فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة "يزيد" فأبى عبد الرحمن بن أبي بكر أن يبايع، فأراده "مروان" بسوء لولا أن دخل بيت عائشة، وقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فردت عليه عائشة وبيَّنت له سبب نزولها، "عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} فقالت عائشة: "ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري" ، وفي بعض الروايات: "إن مروان لما طلب البيعة ليزيد قال: سُنَّة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سُنَّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ... الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته" .
قواعد تضبط ما سبق :
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إذا اتفق ما نزل مع السبب في العموم ، أو اتفق معه في الخصوص ، حُمل العام على عمومه ، و الخاص على خصوصه.
و مثال الأول قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ، عن أنس قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} .. الآية، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم .
و المثال الثاني قوله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، فإنها نزلت في أبي بكر ، و الأتقى: أفعل تفضيل مقرون: بـ "أل" العهدية فيختص بمن نزل فيه ، و إنما تفيد "أل" العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع على الراجح ، و"أل" في "الأتقى" ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل ، و "الأتقى" ليس جمعًا ، بل هو مفرد ، و العهد موجود لا سيما و أن صيغة أفعل تدل على التمييز ، و ذلك كاف في قصر الآية على مَن نزلت فيه ، و لذا قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين: "عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يُعذَّب في الله: بلال، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عيسى، وأمة بني الموئل، وفيه نزلت {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} ... إلى آخر السورة ، و رُوِي نحوه عن عامر بن عبد الله بن الزبير وزاد فيه: "فنزلت هذه الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}... إلى قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
أما إذا كان السبب خاصًّا ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون: أتكون العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟
1- فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالحكم الذي يؤخذ من اللفظ العام يتعدى صورة السبب الخاص إلى نظائرها ، كآيات اللِّعان التي نزلت في قذف هلال بن أمية زوجته: "فعن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء. فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم: "البيِّنَةُ وإلا حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله.. إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيِّنَة؟ فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "البيِّنَة وإلا حدٌّ في ظهرك" ، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ، و ليُنزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، ونزل جبريل فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، حتى بلغ : {إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أخرجه البخاري ، .. فيتناول الحكم المأخوذ من هذا اللفظ العام : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} غير حادثة هلال دون احتياج إلى دليل آخر.
وهذا هو الرأي الراجح والأصح ، و هو الذي يتفق مع عموم أحكام الشريعة ، والذي سار عليه الصحابة والمجتهدون من هذه الأمة فعدوا بحكم الآيات إلى غير صورة سببها. كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت ، أو سلمة بن صخر - على اختلاف الروايات في ذلك ، والاحتجاج بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائع لدى أهل العلم، قال ابن تيمية: "قد يجيء هذا كثيرًا ومن هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن قوله: {وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ، نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسٌّنَّة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ ، و الآية التي لها سبب معين إن كانت
أمرًا أو نهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كان خبرًا يمدح أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته".
2- وذهب جماعة إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فاللفظ العام دليل على صورة السبب الخاص، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه، حتى يبقى لنقل رواية السبب الخاص فائدة، ويتطابق السبب والمسبب تطابق السؤال والجواب.
صيغة سبب النزول:
صيغة سبب النزول إما أن تكون نصًّا صريحًا في السببية، وإما أن تكون محتملة.
فتكون نصًّا صريحًا في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا"، أو إذا أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة النزول بعد ذكر الحادثة أو السؤال، كما إذا قال: "حدث كذا" أو "سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا فنزلت الآية" - فهاتان صيغتان صريحتان في السببية سيأتي لهما أمثلة .
وتكون الصيغة محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: "نزلت هذه الآية في كذا" فذلك يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أنه داخل في معنى الآية.
وكذلك إذا قال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" أو "ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا" فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب - فهاتان صيغتان تحتملان السببية وغيرها كذلك. ومثال الصيغة الأولى ما رُوِي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : "أُنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}... الآية. في إتيان النساء في أدبارهن"البخاري.
ومثال الصيغة الثانية ما رُوِيَ عن عبد الله بن الزبير "أن الزبير خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج من الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري ، سرِّح الماء يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أَرْسِل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجُدر، ثم أَرْسِل الماء إلى جارك" . واستوعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استرعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} متفق عليه ، قال ابن تيمية: "قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: "نزلت هذه الآية في كذا"، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يُدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"[ المراد بالإسناد هنا أن يكون مسندًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمعنى أن يكون مرفوعًا. وإن كان من قول الصحابي، لأنه لا مجال للاجتهاد فيه.]، و قال الزركشي في البرهان: "قد عُرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع".
تعدد الروايات في سبب النزول:
قد تتعدد الروايات في سبب نزول آية واحدة ، وفي مثل هذه الحالة يكون موقف المفسر منها على النحو الآتي:
أ- إذا لم تكن الصيغ الواردة صريحة مثل: "نزلت هذه الآية في كذا" أو "أحسبها نزلت في كذا" فلا منافاة بينها ، إذ المراد التفسير، وبيان أن ذلك داخل في الآية ومستفاد منها، وليس المراد ذكر سبب النزول، إلا إن قامت قرينة على واحدة بأن المراد بها السببية.
ب- إذا كانت إحدى الصيغ غير صريحة كقوله: "نزلت في كذا" وصرح آخر بذكر سبب مخالف فالمُعتمد ما هو نص في السببية، وتُحمل الأخرى على دخولها في أحكام الآية ، ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : "عن نافع قال: قرأت ذات يوم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا ، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن"، فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة في السببية، وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه "عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قُبلِها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، " فجابر هو المُعتمد لأن كلامه نقل صريح، وهو نص في السبب، أما كلام ابن عمر فليس بنص فيُحمل على أنه استنباط وتفسير.
جـ- وإذا تعددت الروايات وكانت جميعها نصًّا في السببية وكان إسناد أحدها صحيحًا دون غيره فالمُتعمد الرواية الصحيحة، مثل: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: "اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى, مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، " وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها -وكانت خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أن جروًا دخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل تحت السرير، فمات ، فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله: {وَالضُّحَى} ... إلى قوله: {فَتَرْضَى} قال ابن حجر في شرح البخاري: "قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده من لا يُعرف ، فالمعتمد ما في الصحيحين" .
د- فإذا تساوت الروايات في الصحة ووُجِدَ وجه من وجوه الترجيح كحضور القصة مثلًا أو كون إحداها أصح قُدِّمت الرواية الراجحة، ومثال ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدِّثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفتُ أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.. و قد أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ... الآية، فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش. والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وتُرجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقِّي صحيح البخاري بالقبول وترجيحه على ما صح في غيره.
وقد اعتبر "الزركشي" هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره ، فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق.
وإني أرى أن كون السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية، فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أولى من حمل الآية على تعدد النزول وتكرره. ولو صح أن الآية مكية وقد نزلت جوابًا عن سؤال فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب نفسه مرة أخرى, بل يقتضي أن يجيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل.
هـ- إذا تساوت الروايات في الترجيح جُمِعَ بينها إن أمكن، فتكون الآية قد نزلت بعد السببين أو الأسباب لتقارب الزمن بينها، كآيات اللِّعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهمْ} ، فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، كما ذكرنا من قبل .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: "جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيُقتل به أم كيف يصنع؟..." فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
و- إن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن فإنه يُحْمَل على تعدد النزول و تكرره ، و مثاله : ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال : "لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: " أي عم، قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الل ه"، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه" ، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.
وأخرج الترمذي عن عليٍّ قال: "سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرتُ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت".
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا ثم بكى، فقال: "إن القبر الذي جلستُ عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . فجمع بين هذه الروايات بتعدد النزول.
ومن أمثلته كذلك ما رُوِيَ عن أبي هريرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف على حمزة حين استُشِهد وقد مُثِّلَ به، فقال: "لأُمَثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانك" ، فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}... إلى آخر السورة"، فهذا يدل على نزولها يوم أُحد.
يتبع إن شاء الله تعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق