Translate

2014-03-17

الدرس السابع من سلسلة علوم القرآن .

              بسم الله الرحمن الر حيم : 
     
             الدرس السابع من سلسلة علوم القرآن .                       

الحمد لله وكفى ، و الصلاة و السلام على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، الذي أوفى ووفّى ووفى ، و رضي الله عن أصحابه الكرام البررة ، و تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد : فنكمل ما بدأناه بإذن الله تعالى ، و نتناول اليوم :

معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل :

التعبير عن تلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بنزوله عليه يُشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلى. ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرًا ربط السماء بالأرض، ووصل الدنيا بالآخرة ، و معرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -و هو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام و مناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق و اللاحق ، و قد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق و آخر ما نزل على الإطلاق ، كما تناول أول ما نزل و آخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام ، كالأطعمة ، و الأشربة ، و القتال... و نحو ذلك.
و للعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ، و آخر ما نزل كذلك أقوال ،  نجملها و نُرَجِّح بينها فيما يأتي: 

أول ما نزل:

1- أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى : [ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ و َرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ] ، و يدل عليه ما رواه الشيخان و غيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : "أول ما بُدِئَ به رسول الله -صلى الله عليه و سلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، و يتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق و هو في غار حِراء ،
فجاءه المَلَك فيه فقال: اقرأ ، قال رسول الله ، صلّى الله عليه و سلم : فقلت: "ما أنا بقارئ" ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْد ، ثم أرسلني فقال: اقرأ ، فقلت: "ما أنا بقارئ" ، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: اقرأ ، فقلت: "ما أنا بقارئ" ، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، حتى بلغ : {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده". الحديث .
2- وقيل إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. لما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ} ، قلت: أو {اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ قال: أحدِّثكم ما حدثنا به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إني جاورت بحِراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي ، فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و شمالي. ثم نظرتُ إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل- فأخذتني رجفة. فأتيتُ خديجة فأمرتهم فدثروني"، فأنزل الله: [ يَا أيُّهُا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنُذِرْ ]  .
وأجيب عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة ، فبيِّن جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ ، فإن أول ما نزل منها صدرها ، و يؤيد هذا ما في الصحيحين أيضًا عن أبي سلمة عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- و هو يُحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض ، فرجعت ، فقلت: زملوني ، فدثروني" ، فأنزل الله: [ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ] .
 فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حِراء -أو تكون "المدثر" أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- و قد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتُقَدَّم عليه رواية عائشة ، و يكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق: [اقْرَأ ] وأول سورة نزلت كاملة ، أو أول ما نزل بعد فترة الوحي: [ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ] .. أو أول ما نزل للرسالة: [ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ] .. وللنبوة [ اقْرَأ ] .
3- و قيل إن أول ما نزل هو سورة "الفاتحة" ولعل المراد أول سورة كاملة.

4- و قيل: [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] و البسملة تنزل صدرًا لكل سورة. ودليل هذين أحاديث مرسلة ، و القول الأول المؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح المشهور.
و قد ذكر الزركشي في "البرهان" حديث عائشة الذي نص على أن أول ما نزل: [ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ] وحديث جابر الذي نص على أن أول ما نزل: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِرُ} ثم قال: "وجمع بعضهم بينهما بأن جابرًا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها ، و لم يسمع أولها ، فتوهم أنها أول ما نزلت ، وليس كذلك ، نعم هي أول ما نزل بعد سورة [ اقْرَأْ ] و فترة الوحي ، لما ثبت في الصحيحين أيضًا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدِّث عن فترة الوحي ، قال في حديثه: "بينما أنا أمشي ، سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت [ أي فزعت ] منه فرقًا [ خوفا ] ، فرجعت فقلت: زملوني زملوني" ، فأنزل الله تبارك و تعالى: [ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر ، قُمْ فَأَنْذِر] .
فقد أخبر في هذا الحديث عن المَلَك الذي جاءه بحِراء قبل هذه المرة ، و أخبر في حديث عائشة أن نزول [ اقْرَأْ ] كان في غار حِراء ، و هو أول وحي ، ثم فَتَرَ بعد ذلك ، و أخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول [ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر ]
 فعُلِمَ بذلك أن [ اقْرَأْ ] أول ما نزل مطلقًا ، و أن سورة المدثر بعده". 
وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين ، بل أول ما نزل: [ اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ] بغار حِراء ، فلما رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- وصبت عليه الماء البارد ، أنزل الله عليه في بيت خديجة: [ َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر ]  فظهر أنه لما نزل عليه [ اقْرَأْ ] رجع فتدثر ، فأنزل عليه: [ َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر ] ..

وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة ، رُوِيَ ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع الصوت انطلق هاربًا ، و ذكر نزول المَلَك عليه و قوله : قل [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] ... إلى آخرها.

وقال القاضي أبو بكر في "الانتصار": و هذا الخبر منقطع ، و أثبت الأقاويل: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويليه في القوة : { يا أَيُّهَا المُدَّثِّر } .. و طريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} و أول ما نزل من أوامر التبليغ: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. و أول ما نزل من السور سورة الفاتحة ، و هذا كما ورد في الحديث : " أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة " ، و " أول ما يُقضى فيه الدماء" ، و جُمِعَ بينهما بأن أول ما يُحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء. وأول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة.

و قيل: أول ما نزل للرسالة : {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. و للنبوة: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإن العلماء قالوا: قوله تعالى: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} دال على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف خاص ، و قوله: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر ، قُمْ فَأنْذِرْ} دليل على رسالته -صلى الله عليه وسلم- لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف عام .

 آخر ما نزل:

1- قيل : آخر ما نزل آية الربا ، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت آية الربا" والمراد بها قوله تعالى: [ يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ].

2- و قيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}... الآية ، لما رواه النسائي و غيره عن ابن عباس و سعيد بن جبير : "آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ... الآية.

3- و قيل: آخر ما نزل آية الدَّيْنِ ، لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدَّيْنِ" و المراد بها: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ]... الآية.
ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، آية الربا ، فآية {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} فآية الدَّيْنِ ، لأنها في قصة واحدة. 

فأخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر ، و ذلك صحيح ، و بهذا لا يقع التنافر بينها.

4- و قيل: آخر ما نزل آية الكلالة . فقد رَوَى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت: {يستفتونك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة}... الآية ، وحُمِلَتْ الآخرية هنا في قول البراء على أنها مقيدة بما يتعلق بالمواريث.
5- و قيل : آخر ما نزل قوله تعالى : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}... إلى آخر السورة. 
ففي المستدرك عن أُبِّيِّ بن كعب قال : آخر آية نزلت: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى آخر السورة ، و حُمل هذا على أنها آخر ما نزل من سورة "براءة".
ففي ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أُبَيِّ بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى قوله : { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} في آخر سورة براءة.

6- و قيل: آخر ما نزل سورة المائدة ، لما رواه الترمذي و الحاكم في ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- وأجيب بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام ، فلم تنسخ فيها أحكام.

7- و قيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.. لما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : "آخر آية نزلت هذه الآية : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} ... إلى آخرها ، و  ذلك أنها قالت: يا رسول الله.. أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت: { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، و نزلت: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } ، ونزلت هذه الآية ، فهي آخر الثلاثة نزولًا ، و آخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة".
ويتضح من الرواية أن الآية المذكورة آخر الآيات الثلاث نزولًا ، وأنها آخر ما نزل بالنسبة إلى ما ذُكر فيه النساء.

8- و قيل : آخر ما نزل آية: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} ، لما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. والتعبير بقوله: "وما نسخها شيء" يدل على أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدًا.

- وأخرج مسلم عن ابن عباس قال:"آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، و حُمل ذلك على أن هذه السورة آخر ما نزل مُشعرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما فهم بعض الصحابة ، أو أنها آخر ما نزل من السور.

وهذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ، و يحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من الرسول ، أو قال ذلك باعتبار آخر ما نزل في تشريع خاص ، أو آخر سورة نزلت كاملة على النحو الذي خرجنا به كل قول منها.

أما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} ، فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض و الأحكام ، و قد سبقت الإشارة إلى ما رُوِي في نزول آية الربا ، وآية الدَّيْن ، آية الكَلالة ، وغيرها بعد ذلك. لذا حمل كثير من العلماء إكمال الدين في هذه الآية على أن الله أتم عليهم نعمته بتمكينهم من البلد الحرام ، و إجلاء المشركين عنه ، وحجهم وحدهم دون أن يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، و قد كان المشركون يحجون معهم من قبل و ذلك من تمام النعمة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قال القاضي أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" مُعلقًا على اختلاف الروايات في آخر ما نزل: "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك ، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب" .

أوائل موضوعية:

و تناول العلماء أوائل ما نزل بالنسبة إلى موضوعات خاصة ، و من ذلك:

1- أول ما نزل في الأطعمة: أول آية نزلت بمكة آية الأنعام: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
ثم آية النحل: { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثم آية البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
ثم آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
2- أول ما نزل في الأشربة : أول آية نزلت في الخمر آية البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
ثم آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .
ثم آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ, إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
3- أول ما نزل في القتال: عن ابن عباس قال: أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.

فوائد هذا المبحث:

ولمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل فوائد أهمها:

أ- بيان العناية التي حظي بها القرآن الكريم صيانة له وضبطًا لآياته : فقد وعى الصحابة هذا الكتاب آية آية ، فعرفوا متى نزلت؟ و أين نزلت؟ حيث كانوا يتلقون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينزل عليه من القرآن تلقِّي المؤمنين لأصول دينهم ، و مبعث إيمانهم ، و مصدر عزهم و مجدهم، وكان من أثر ذلك سلامة القرآن من التغيير والتبديل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ب- إدراك أسرار التشريع الإسلامي في تاريخ مصدره الأصيل : فإن آيات القرآن الكريم عالجت النفس البشرية بهداية السماء . و أخذت الناس بالأساليب الحكيمة التي ترقى بنفوسهم في سلم الكمال ، وتدرجت بهم في الأحكام التي يستقيم بها منهج حياتهم على الحق ، وتنتظم شئون مجتمعهم على الطريق الأقوم.
جـ- تمييز الناسخ من المنسوخ: فقد ترد الآيتان أو الآيات في موضوع واحد ، ويختلف الحكم في إحداها عن الأخرى ، فإذا عُرِفَ ما نزل أولًَا وما نزل آخرًا كان حكم ما نزل آخرًا ناسخًا لحكم ما نزل أولًا.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا ، و يرزقنا في ذلك كله الإخلاص لوجهه الكريم ، و لا يجعل لأحد في هذه الدروس شيئا ، و جزى الله عنا مشايخنا و علماءنا الذين أخذنا عنهم ، خير الجزاء  و صلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق