Translate

2014-05-10

الدرس التاسع عشر من سلسلة دروس العقيدة الإسلامية .

بسم الله الرحمن الرحيم :

الدرس التاسع عشر من سلسلة دروس العقيدة الإسلامية .

درس اليوم: الإيمان و الإسلام :

اختلف أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإسلام و الإيمان على قولين: هل هما بمعنى واحد ، أم أن أحدهما غير الآخر؟ و المتتبع للآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ؛ يجد أن اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام ، و تارة يذكر مقروناً به ، و كذلك العكس ؛ فإنهما أحياناً يكونان بمعنى واحد فهما مترادفان ، و تارة يراد من أحدهما معنى يغاير لمعنى الآخر؛ فيكونان متغايرين.
و الذي عليه أكثر العلماء ؛ أن مسمّى الإسلام غير مسمى الإيمان ، وبينهما فرق ؛ فباعتبار الحقيقة اللغوية يفترق الإسلام و الإيمان وباعتبار الحقيقة الشرعية يتضمن الإيمان الإسلام ؛ لأن بينهما تلازماً في الوجود ، فكل واحد منهما مكمل للآخر بحيث لا ينفكان عن بعضهما، و أنهما إذا اجتمعا اختلفا في مدلولهما ، و إذا افترقا اجتمعا في مدلولهما ، و أنه إذا وجد أحدهما في نص دون الآخر فهو لازم له، و إن اجتمعا في نص واحد فكل منهما يفسر بمعناه المذكور ، قال الله تبارك و تعالى:
[ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ].
بمعنى أنه إذا اجتمعا باللفظ افترقا بالمعنى ، أي: إذا قرن الإسلام و الإيمان في نص:
فيراد بالإسلام الأعمال الظاهرة من العبادات: الشهادتان ، و الصلاة ، و الزكاة ، الصيام ، و الحج ، أي: الاستسلام لله تعالى ، و الخضوع والإنقياد له - سبحانه - بالعمل.                                                                                                                                                                                             
و يراد بالإيمان الاعتقادات الباطنة ، و هي الإيمان بالله تعالى ، وملائكته ، وكتبه، ورسله ، و اليوم الآخر، و القدر خيره و شره ، أي: تصديق القلب و إقراره و معرفته.
و إذا افترقا في نص اجتمعا؛ فيشمل كل واحد منهما الدين كله؛ من أصوله وفروعه؛ من اعتقاداته و أفعاله الظاهرة و الباطنة.
أي: إذا جاء ذكر الإسلام مفرداً، أو الإيمان مفرداً فالمراد بهما الدين كله، بما فيه من إسلام، وإيمان، واستسلام، وشعائر، وشرائع، ومناهج، وأحكام، قال الله تعالى: [ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ] .
وقال : [ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ ].
وقال : [ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ].
وقال : [ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ].
وقال : [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ، وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ].
وقال : [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
(الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
وعن عمر - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً .
قال : صدقت؛ فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال :
أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال : صدقت. قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال :
أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال :
ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل.
قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال :
أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ؛ يتطاولون في البنيان) .
ثم انطلقت فلبثت ملياً، ثم قال:  يا عمر أتدري من السائل؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) .
فمثل الإسلام من الإيمان؛ كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى؛ فالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة غير الشهادة لله بالوحدانية والعبادة، ومثل لفظ الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، وإذا أطلق لفظ المسكين تناول الفقير، وإذا قرن بينهما؛ فأحدهما غير الآخر.
كذلك الإسلام والإيمان؛ إذ لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، و لا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه.
وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين الأدلة، وهذا هو القول الوسط، وبه تجتمع النصوص الشرعية.
ويمكن القول إن الخلاف بين السلف في هذه المسألة خلاف لفظي يسير؛ لأن الجميع متفقون على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية ، و أنهم لا يخرجون أهل المعاصي من الإيمان إلى الكفر؛ و إذا أخرجوهم من الإيمان إلى الإسلام ؛  فلم يقولوا إنه لا يبقى معهم شيء من الإيمان ؛ بل يبقى معهم أصل الإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
لو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب ، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان ؛ فكل مسلم مؤمن ، و كل مؤمن مسلم.
و هذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه؛ إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته؛ فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب و غيرهم.
فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان، لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر ؛ كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر؛ فالإيمان كروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن.
والإسلام كالبدن، و لا يكون البدن حياً إلا مع الروح ، بمعنى أنهما متلازمان ، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، و إسلام المنافقين كبدن الميت ، جسد بلا روح ، فما من بدن حي إلا و فيه روح .. ؛ فكل من خشع قلبه ، خشعت جوارحه ، و لا ينعكس، ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع؛ فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائماً بحقائقهما) .
التلازم الظاهر بالباطن :
إن ظاهر العبد - عند أهل السنة والجماعة - هو الوجه الآخر لقلبه و باطنه ، و أنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه و لا يغايره ، و إذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك ، و إذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه ؛ لأن الإيمان أصله في القلب ، و هو:
* قول القلب من المعرفة والعلم و التصديق.
* عمل القلب من الإذعان والانقياد و الاستسلام.
ولكن من لوازم هذا الإيمان - إذا تحقق في القلب - تحقيقها في الظاهر ، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن و لا يضاده ؛ لأنه ترجمان الباطن ، و مرتبط به ارتباطاً وثيقاً.
فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس.
والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه ؛ لا يثبت له اسم الإيمان ؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله تبارك وتعالى :
[ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ].
وقال تعالى : [ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ] .
وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، و لا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه).
وقال صلى الله عليه وسلم : (ألا وإن في الجسد مضغة : إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في شرح هذا الحديث:
 (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه).
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث أيضاً:
(إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه.
فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.
ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم .. .
فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته ... وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب .. .
ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده) .
وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة و الجهمية ، و التي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان ، و أن الأعمال ليست من الإيمان ، و قد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب ، و أن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع ؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان ، أو جزء من الإيمان) .
وقال في موضع آخر: ( وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق ، أو تكذيب، و لا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، و لم يتكلم قط بالإسلام ، و لا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف ؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن ، و إنما هو كافر) .
وقال كذلك: ( و قد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال - أيضاً - رحمه الله: ( إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة ؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة ، بل يلزم من وجود هذا كاملاً ، وجود هذا كاملاً ؛ كما يلزم من نقص هذا ، نقص هذا ؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، و هذا ممتنع.
وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله:
( و ها هنا أصل آخر: و هو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. و القول قسمان: قول القلب ، و هو الاعتقاد . و قول اللسان ، و هو التكلم بكلمة الإسلام . و العمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته و إخلاصه . و عمل الجوارح.
فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة.
وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق ؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة و أهل السنة ؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان ، و أنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب ، و هو محبته و انقياده ؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه ، و اليهود و المشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول ؛ بل و يرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به.
وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب ؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ، و لا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب و انقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم - كما تقدم تقريره - فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد ؛ أطاعت الجوارح وانقادت ، و يلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة ، و هو حقيقة الإيمان.
فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم بيانه – و إنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، و هكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق و تبيينه ؛ بل هو معرفته المستلزِمة لاتبّاعه، و العمل بموجبه، و إن سمي الأول هدى ؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء ؛ كما أن اعتقاد التصديق ، و إن سمي تصديقاً ؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان ، فعليك بمراجعة هذا الأصل و مراعاته) .
و قال العلامة المحقق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله:
( ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن؛ فإن كان الظاهر منخرماً ؛ حكم على الباطن بذلك ، أو مستقيماً ؛ حكم على الباطن بذلك أيضاً ، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات؛ بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً ، والأدلة على صحته كثيرة جداً ، و كفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل ، و جرحة المجرِّح ،  و بذلك تنعقد العقود و ترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور؛ بل هو كلية التشريع، و عمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة ) .
و الله الموفق لا ربَّ سواه .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق