Translate

2014-05-25

الدرس العاشر من سلسلة علوم القرآن الكريم .


بسم الله الرحمن الرحيم :


الدرس العاشر من سلسلة علوم القرآن الكريم .


جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

...نتابع توضيح مسألة جمع القرآن العظيم ، دستورنا و منهاجنا و نور دربنا الذي أكرم الله به هاته الأمة فتركته وراءها ظهريا ، و ظلّت تركض خلف الشرق و الغرب لتطلب منهم الهداية ، و كنزها بين يديها ، فإنا لله و إنا إليه راجعون .
اليوم نتناول بفضل الله و منه تعالى :

2- جمع القرآن في عهد أبي بكر، رضي الله عنه:

قام أبو بكر بأمر الإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وواجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب ، فجهَّز الجيوش و أوفدها لحروب المرتدين ، و كانت غزوة أهل اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة تضم عددًا كبيرًا من الصحابة القرَّاء ، فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئًا من الصحابة ، فهال ذلك عمر بن الخطاب ، و دخل على أبي بكر -رضي الله عنه- و أشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع ، فإن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالقرَّاء ، و يُخشى إن استحرّ بهم في المواطن الأخرى أن يضيع القرآن و يُنْسَى ، فنفر أبو بكر من هذه المقالة و كبر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظل عمر يراوده حتى شرح الله صدر أبي بكر لهذا الأمر، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة و الكتابة و الفهم و العقل ، و شهوده العرضة الأخيرة ، و قصَّ عليه قول عمر - فنفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر من قبل ، و تراجعا حتى طابت نفس زيد للكتابة ، و بدأ زيد بن ثابت في مهمته الشاقة معتمدًا على المحفوظ في صدور القرَّاء ، و المكتوب لدى الكتبة ، و بقيت تلك الصحف عند أبي بكر ، حتى إذا توفي سنة ثلاث عشرة للهجرة صارت بعده إلى عمر ، و ظلّت عنده حتى مات - ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان حتى طلبها عثمان من حفصة.
عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرًّاء القرآن، و إني أخشى أن يستحر القتل بالقرَّاء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أريد أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؟ قال: عمر: هو و الله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، و رأيت في ذلك الذي رأى عمر - قال زيد: قال: أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك ، و قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه ، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله ، صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر و عمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف و صدور الرجال ، و وجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع غيره [ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ] ، حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" .
و قد راعى زيد بن ثابت نهاية التثبت ، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة ، و قوله في الحديث: "و وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره " لا ينافي هذا ، و لا يعني أنها ليست متواترة ، و إنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره ، و كان زيد يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، لأن زيدًا كان يعتمد على الحفظ والكتابة معًا، فكانت هذه الآية محفوظة عند كثير منهم، ويشهدون بأنها كُتِبت، ولكنها لم توجد مكتوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري.
أخرج ابن أبي داود  من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر فقال: مَن كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأت به، و كانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان " وهذا يدل على أن زيدًا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبًا حتى يشهد به مَن تلقَّاه سماعًا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة من الاحتياط، وأخرج ابن أبي داود أيضًا من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن أبا بكر قال لعمر و لزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه" ورجاله ثقات مع انقطاعه، قال ابن حجر: "وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب" وقال السخاوي في "جمال القراء": "والمراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن" قال أبو شامة: "وكان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كُتِبَ بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ ، و لذلك قال في آخر سورة التوبة: "لم أجدها مع غيره" أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة".

وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبًا من قبل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف و العسب. فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتب الآيات و السور و أن تكون كتابته غاية من التثبيت مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أول مَن جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف، و إن وُجِدَت مصاحف فردية عند بعض الصحابة ، كمصحف علي ، و مصحف أُبَي، ومصحف ابن مسعود، فإنها لم تكن على هذا النحو، ولم تنل حظها من التحري  و الدقة ، و الجمع  و الترتيب ، و الاقتصار على ما لم تُنسخ تلاوته ، و الإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع، وعن علي قال: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول مَن جمع كتاب الله".
وهذا الجمع هو المسمى بالجمع الثاني.
و الله أسأل أن يعيننا على تعلّم العلم و التخلّق بأخلاق أهله من سلفنا الصالح من العلماء الربّانيين العاملين ، و أن يرزقنا في ذلك كلّه الإخلاص لوجهه الكريم ، إنه مولانا ، فنعم المولى و نعم النصير .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق