Translate

2014-06-14

الدرس الرابع عشر من سلسلة الدروس العلمية في مادة علوم القرآن .

                   بسم الله الرحمن الرحيم :


  الدرس الرابع عشر من سلسلة علوم القرآن .


درس اليوم : الرسم العثماني:

سبق الحديث عن جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- وقد اتبع زيد بن ثابت والثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان، ويسمي العلماء هذه الطريقة "بالرسم العثماني للمصحف" نسبة إليه ، واختلف العلماء في حكمه.
1- فذهب بعضهم إلى أن هذا الرسم العثماني للقرآن توقيفي يجب الأخذ به في كتابة القرآن، وبالغوا في تقديسه، ونسبوا التوقيف فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا أنه قال لمعاوية, أحد كتبة الوحي: "ألق الدواة، وحرِّف القلم، وانصب الياء، وفرِّق السين، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن الله، ومد الرحمن، وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك" ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدى إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضًا معجز".
والتمسوا لذلك الرسم أسرارًا تجعل للرسم العثماني دلالة على معان خفية دقيقة ، كزيادة "الياء" في كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، إذ كُتِبَتْ هكذا "بأيَيْدِ" . و هي عند ورش الآن ، وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء. وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة، وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
وهذا الرأي لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يكون الرسم توقيفيًّا ، و إنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن عثمان برضًا منه، وجعل لهم ضابطًا لذلك بقوله للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم" وحين اختلفوا في كتابة "التابوت" فقال زيد: "التابوه" وقال النفر القرشيون: "التابوت" وترافعوا إلى عثمان قال: "اكتبوا "التابوت" فإنما أُنزل القرآن على لسان قريش".
2- وذهب كثير من العلماء إلى أن الرسم العثماني ليس توقيفيًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان، وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا تجوز مخالفته. قال أشهب: "سُئل مالك: هل يُكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال: لا، إلا على الكتبة الأولى" رواه أبو عمرو الداني في "المقنع" ثم قال: "ولا مخالف له من علماء الأمة"، وقال في موضع آخر: سُئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تُغيَّر من المصحف إذا وُجِدا فيه كذلك قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المَزِيْدَتَيْنِ في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو "أولوا" وقال الإمام أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك".
3- وذهب جماعة إلى أن الرسم العثماني اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته! إذا اصطلح الناس على رسم خاص للإملاء وأصبح شائعًا بينهم. قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الانتصار": "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا. أولم يأخذ على كتَّاب القرآن وخُطَّاط المصاحف رسمًا بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يُدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدٍّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السٌّنَّة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السٌّنَّة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر برسمه ولم يبيِّن لهم وجهًا معينًا ولا نهى أحدًا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يُكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يُجعل الكلام على صورة الكاف، وأن تُعوَّج الألفات، وأن يُكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، و جاز أن يُكتب بالخطوط  و الهجاء المحدَثة ، وجاز أن يُكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى. من غير تأثيم ولا تناكر، عُلِمَ أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أُخِذَ عليهم في القراءة، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز. فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت.. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنَّى له ذلك".
وانطلاقًا من هذا الرأي يدعو بعض الناس اليوم إلى كتابة القرآن الكريم وفق القواعد الإملائية الشائعة المصطلح عليها، حتى تسهل قراءته على القارئين من الطلاب والدارسين، ولا يشعر الطالب في أثناء قراءته للقرآن باختلاف رسمه عن الرسم الإملائي الاصطلاحي الذي يدرسه.
والذي أراه أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح ، و أنّه يجب كتابة القرآن بالرسم العثماني المعهود في المصحف.
فهو الرسم الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان -رضي الله عنه- والحفاظ عليه ضمان قوي لصيانة القرآن من التغيير والتبديل في حروفه، ولو أبيحت كتابته بالاصطلاح الإملائي لكل عصر لأدى هذا إلى تغيير خط المصحف من عصر لآخر ، بل إن قواعد الإملاء نفسها تختلف فيها وجهات النظر في العصر الواحد، وتتفاوت في بعض الكلمات من بلد لآخر.
واختلاف الخطوط الذي يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني شيء والرسم الإملائي شيء آخر، فاختلاف الخط تغير في صورة الحرف لا في رسم الكلمة.
وحجة تيسير القراءة على الطلاب والدارسين بانتفاء التعارض بين رسم القرآن والرسم الإملائي الاصطلاحي لا تكون مبررًا للتغيير الذي يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن.
والذي يعتاد القراءة في المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات، والذين يمارسون هذا في الحياة التعليمية أو مع أبنائهم يدركون أن الصعوبة التي توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة تامة.
قال البيهقي في شُعب الإيمان: "من يكتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يُغيِّر مما كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم"
تحسين الرسم العثماني:

كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل، اعتمادًا على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات ولا إلى الإعجام بالنقط ، فلما تطرق إلى اللِّسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط أحس أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة.
واختلف العلماء في أول جهد بُذِل في ذلك السبيل.

فيرى كثير منهم أن أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي الذي يُنسب إليه وضع ضوابط للعربية بأمر علي بن أبي طالب، ويُرْوَى في ذلك أنه سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فقرأها بجرِّ اللام من كلمة "رسوله" فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عزَّ وجهُ اللهِ أنْ يبرأَ منْ رسولِهِ ، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث، وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله ، و جعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف ، و جعل علامة السكون نقطتين.
ويذكر السيوطي في "الإتقان" أن أبا الأسود الدؤلي أول من فعل ذلك بأمر عبد الملك بن مروان لا بأمر زياد ، حيث ظل الناس يقرءون في مصحف عثمان بضعًا وأربعين سنة. حتى خلافة عبد الملك حين كثرت التصحيفات وانتشرت في العراق ففكر الولاة في النقط والتشكيل.
وهناك روايات أخرى تنسب هذا الفعل إلى آخرين. منهم: الحسن البصري، و يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي، و أبو الأسود الدؤلي هو الذي اشتهر عنه ذلك، وربما كان للآخرين المذكورين جهود أخرى بُذلت في تحسين الرسم وتيسيره.
وقد تدرج تحسين رسم المصحف، فكان الشكل في الصدر الأول نقطًا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله.
ثم كان الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها، وتُكتب الألف المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تُكتب همزة بلا حرف حمراء أيضًا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون ، و تعرى عند الإدغام و الإخفاء ، و يسكن كل مُسَكَّن ، ويعرى المدغم و يشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو "فرطْت".
ثم كان القرن الثالث الهجري فجاد رسم المصحف وتحسن، وتنافس الناس في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميِّزة، فجعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها. على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة.
ثم تدرج الناس بعد ذلك في وضع أسماء السور وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآي، وعلامات الوقف اللازم "م" والممنوع "لا" والجائز جوازًا مستوى الطرفين "ج" والجائز مع كون الوصل أولى "صلي" والجائز مع كون الوقف أولى " قلي" وتعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر " " والتجزئة، و التحزيب، إلى غير ذلك من وجوه التحسين.
وكان العلماء في بداية الأمر يكرهون ذلك خوفًا من وقوع زيادة في القرآن مستندين إلى قول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء"، ويفرِّق بعضهم بين النقط الجائز. والأعشار والفواتح التي لا تجوز. قال الحليمي: "تُكره كتابة الأعشار والأخماس، وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن" وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوَّهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا. وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها".
ثم انتهى الأمر في ذلك إلى الإباحة والاستحباب، أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: "لا بأس بنقط المصاحف"، وأخرج عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه قال: "لا بأس بشكله"، وقال النووي: "نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف".
وقد وصلت العناية بتحسين رسم المصحف اليوم ذروتها في الخط العربي.
و الله الموفق لا ربّ سواه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق