بسم الله الرحمن الرحيم :
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].[آل عمران: 102] .
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] .[النساء:1]
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً].[الأحزاب: 70 و71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
نواصل معاشر المسلمين في بيان المفاهيم المغلوطة عن الإسلام ، و تصحيحها حتى تبقى معالم الإسلام واضحة نقية في أذهان و عقول الناشئة من المسلمين ، بل و حتى كبار الناس و لم لا ينخرط الجميع في حملة علمية دعوية تزيح الغبار و الركام الذي علا تعاليم ديننا العظيم ، فيصدر الناس عنه و قد علموا ما يراد بهم ، و قد فهموا واجبهم في هذا العصر ، و هو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام.
معاشر المسلمين ، تلك المفاهيم التي لكثرة انتشارها و حضورها القوي بين العوام ، ظنّها كثير منهم أنها من الدّين و ليست هي من الدين قطعًا .
و لقد كنَّا تناولنا في خطبتنا السابقة ، تصحيحا لمفهوم خاطئ منتشر بين الناس ، و هو اعتقاد كثير من الناس بل جلّ الناس إلا من رحم ربي ، و قليل ما هم ، أن العبادة تنحصر في أركان الإسلام الخمسة ، من صلاة و صيام و زكاة و حج ، بعد الشهادتين ، و قلنا أن هذا المفهوم خطأ و بينا بالأدلة أن مفهوم العبادة في الإسلام أوسع من هذا المفهوم الضيق ، فذكرنا أن باب العبادة واسع فهو يشمل النصيحة للمسلمين ، و العمل من أجل الكسب الحلال ، و التبسم في وجه الأخ المسلم ، و زيارة الأخ المسلم و عيادة المريض ، و التواصي بالحق و التواصي بالصبر، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و الدعوة إلى الإسلام ، و إصلاح ذات البين ، و غيرها من العبادات و الأعمال الصالحة التي تقربنا إلى ربنا تبارك و تعالى .
نستطيع أن نجعل خطبة اليوم بعنوان : بين ميزان الله و ميزان البشر .
اليوم بإذن الله تعالى ، نتناول أمرا جديدا و قضية هامة أخرى ، اليوم نعرض لمفهوم خطأ ينتشر بين الناس انتشارا واسعا ، و قليل من يتفطن إلى حدّه الشرعي ، و ضوابطه التي ينبغي أن يكون المسلم على ذُكْرٍ منها .
هذا المفهوم الذي نتناوله اليوم بالبيان هو قضية الحكم على الناس بالخيرية أو الدونية ، و ميزان تقييم الناس و رفعهم منازل عالية أو اعتبارهم من أهل الصلاح و الخير ، و من أهل الثقة و الدِّين ، أو اعتبارهم من أهل الفساد و الشر ، و من أهل الخداع و النفاق ، بأي ميزان نَزِنُ الناس و كيف نحكم على من نتعامل معهم ؟.
أنحكم عليهم بأمزجتنا و أهوائنا ؟ أم نحكم عليهم بشرع الله و أحكامه تعالى ؟ أنرفع الناس بما يمليه علينا واقعنا و مصلحتنا ؟ ، أم لا بدا لرفع إنسان إلى مكانة معينة أن نرجع فيه إلى الشرع ، هذا ثان مفهوم نتناوله في هذه السلسلة المباركة بإذن ربّ البرية ، سبحانه و تعالى .
إن الله عزّ شأنه بيَّنَ لنا في كتابه قضية رفع الناس لمنازل لا يستحقونها ، و غمط بعض الناس لبعض في إعطائهم ما يستحقون من التجلة و الإحترام .
قال الله تعالى : أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون .
هذا توبيخ من الله تعالى للذين جَهِلُوا سُنَّةَ الله في رفع من يستحق الرفع ، و خفض من يستحق الخفض ، أي كيف تحكمون أيها الناس بأهوائكم و تصوراتكم ، وتقولون ما ليس لكم به علم ، أفيستوي عندكم و في ميزانكم ، و عقولكم أن نجعل المسلمين الذين خضعوا لله و لحكمه ، أن نجعلهم كمن عصى الله تعالى و تمرّد على أحكامه .
و مثله قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون .
و يقول الله العظيم : أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار .
هاتان آيتان كريمتان تبينان لنا بما لا يدع مجالا للشك أن ميزان الله عدل كلّه ، فالله تعالى لا يساوي بين من أطاعه و اتقاه و بين من ردّ أمره و عصاه ، فكيف نحن عباده ، نسوّي بين من لا تجوزالتسوية بينهم .
الخلاصة :
إن من الأمور التي ينبغي أن نكون على ذكر منها ، ونمعن فيها النظر، ونأخذ منها الآيات و العبر، الفروق بين موازين الله وموازين البشر، ذلك أننا في كثير من الأحيان، نحكم على الأشخاص والهيئات و الأقوال و الاعتقادات ، من منظار الدنيا ، ونقوّم الناس و المواقف من خلال مصالحنا الدنيوية التي ننظر إلى هؤلاء الأشخاص والأحوال من خلالها ، بينما يكون الأمر عند الله تعالى مختلفاً تمام الاختلاف ، ومن هنا كان لابد لنا أن نعدل النظرة ، و نصحح هذا المفهوم ، وأن نقوم الميزان ، حتى ننظر إلى الأمور من خلال منظار الشرع ، لا من خلال منظار الهوى والعادات و التقاليد ، و ما استحدثه الناس من أنواع الموازين الدنيوية.
وسنتحدث عن بعض الأحوال والمواقف ، وأنواع الناس الذين يُنظر إليهم من خلال ميزان الدنيا، ونقارن ذلك بما عند الله تعالى .
ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي ، قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ له ، قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ له ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ".
هذا هو الفقه العظيم ، هذا هو الفهم القويم ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قام بتصحيح هذا الفهم الخاطئ لمفهوم الخيرية ، فالناس ينظرون إلى الغنى و الشرف و من تلبّس بهما نظرة تأثرت بالدنيا و زخمها و حلوها و خضرتها
وفيما يتعلّق بالقصّة ، فإن فحواها هو التنبيه على أن الميزان الحقيقي عند الله لا يكون بالصور و لا المناظر ، و لكن بالجوهر و العمل ، يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) متفق عليه ، و زاد الإمام النسائي في سننه [ و أعمالكم ] ، وقبل ذلك يقول الله في كتابه: { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} ، وهذا هو الوزن الحق والعدل.
و يؤيد ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وسلّم ، فيما رواه إماما المحدثين ، البخاري و مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة .
نعم أيها المسلمون :
العبرة يوم القيامة ليست بحجم الإنسان ولكن بحجم أعماله الصالحة ، الخالصة التي كان يعملها في الدنيا لوجه الله تعالى ، وإليكم هذا المثال الذي يوضح ما نريد قوله ، ثبت في مسند الإمام أحمد بإسناد جيد ، و صحيح ابن حبّان ، و مسند أبي داود الطيالسي ، و مسند أبي يعلى الموصلي ، و معجم الطبراني الكبير ، و تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، و المعرفة و التاريخ ليعقوب بن سفيان الفسوي ، و الآحاد و المثاني لابن أبي عاصم ، و الأنساب و الأشراف للإمام البلاذري ، و تاريخ دمشق لابن عساكر ، أن الصحابي الجليل ، عبد الله بن مسعود كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ " قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ جبل أُحُدٍ .
الله أكبر ، إن الرجال لا يقاسون بطول و لا بعرض ، إنما يقاسون بجلائل الأعمال ، إنما يقاسون بخدمتهم للإسلام ، إنّما يقاسون بسهرهم و هم يفكرون كيف ينصرون الإسلام ، إنما يقاسون من أجل معاناتهم لترتفع راية محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الرايات ، إنما يقاسون ببنائهم لبيوت الله تعالى ، لتتوحد القلوب و العقول على طاعة الله و نشر شريعته في العالمين ، إنما يقاسون ببنائهم لمدارس إسلامية حتى تتربى أبناؤهم على الإسلام و العلم و لغة القرآن ، بهاته القيم يرتفع شأن المسلم ، عند الله ثم عند الناس ، و في ذلك فليتنافس المتنافسون .
لا بأس بالقوم من طول و من عرض ... أجسام البغال و أحلام العصافير .
و قال الشاعر المُجِيدُ يوما :
يا صاحب الجسم كم تشقى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسرانُ
أقبل على النفس و استكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان ُ.
أتعرفون من هو عبد الله بن مسعود ؟ إنّه من أوائل من أسلم ، إذ أخرج الطبراني والبزار وغيرهما عنه أنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا. و هو أول من جهر بالقرآن بين ظهراني المشركين في مكة ، فآذووه و كادوا يقتلونه ، إنه من صاحب رسول الله في جميع أوقاته ، يتعلّم منه العلم ، و شرائع الإسلام ، حتى قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ كُنَيْفٌ مُلِءَ عِلْمًا ]، و حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته ، رضي الله عنه و أرضاه .
وكان مستجاب الدعوة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالله - رضي الله عنه -: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَدْعُو، فَقَالَ: "سَلْ تُعْطَهْ"، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، جَنَّةِ الْخُلْدِ.
تنبيه :
معنى ذلك: لا ينبغي أن نتوهم أننا إذا صلينا الصلوات الخمس كنا كما أراد الله، أننا إذا صمنا رمضان أدينا ما علينا ، أننا إذا حججنا بيت الله الحرام كنا مسلمين حقا ، أننا إذا أدينا زكاة مالنا انتهى كل شيء ، مع طل الذي ذكرنا ، نقول لإخواننا المسلمين ، دينكم يظهر في بيعكم وشرائكم ، دينكم يظهر في كلامكم ، دينكم يظهر في أخلاقكم مع إخوانكم في المسجد ، دينكم يظهر في بيوتكم مع أزواجكم و أبنائكم ، دينكم يظهر في معاملاتكم مع جيرانكم .
أمر آخر يدلنا على عظم هذا الدين ، و أنه يرفع شأن أهله جميعا ، ما ثبت في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ، كَانَت تقمُّ الْمَسْجِدَ ؛ فَمَاتَت فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالُوا : مَاتَت ، قَالَ : أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِا ؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا ، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا . رواه البخاري ، ومسلم .
هذه امراة سوداء اهتم الرسول بأمرها ، و عظّم شأنها جدا ، حتى أنّه تنقل بنفسه عليه الصلاة و السلام ليصلي على قبرها ، عكس ما هو متداول أن النساء لا قيمة لهن في دين الله عز و جل ، فافهمو دينكم رحمكم الله .
أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله .
الخطبة الثانية :
كلها دعاء للمسلمين .
و الله الموفق لا رب سواه .
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].[آل عمران: 102] .
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] .[النساء:1]
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً].[الأحزاب: 70 و71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
نواصل معاشر المسلمين في بيان المفاهيم المغلوطة عن الإسلام ، و تصحيحها حتى تبقى معالم الإسلام واضحة نقية في أذهان و عقول الناشئة من المسلمين ، بل و حتى كبار الناس و لم لا ينخرط الجميع في حملة علمية دعوية تزيح الغبار و الركام الذي علا تعاليم ديننا العظيم ، فيصدر الناس عنه و قد علموا ما يراد بهم ، و قد فهموا واجبهم في هذا العصر ، و هو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام.
معاشر المسلمين ، تلك المفاهيم التي لكثرة انتشارها و حضورها القوي بين العوام ، ظنّها كثير منهم أنها من الدّين و ليست هي من الدين قطعًا .
و لقد كنَّا تناولنا في خطبتنا السابقة ، تصحيحا لمفهوم خاطئ منتشر بين الناس ، و هو اعتقاد كثير من الناس بل جلّ الناس إلا من رحم ربي ، و قليل ما هم ، أن العبادة تنحصر في أركان الإسلام الخمسة ، من صلاة و صيام و زكاة و حج ، بعد الشهادتين ، و قلنا أن هذا المفهوم خطأ و بينا بالأدلة أن مفهوم العبادة في الإسلام أوسع من هذا المفهوم الضيق ، فذكرنا أن باب العبادة واسع فهو يشمل النصيحة للمسلمين ، و العمل من أجل الكسب الحلال ، و التبسم في وجه الأخ المسلم ، و زيارة الأخ المسلم و عيادة المريض ، و التواصي بالحق و التواصي بالصبر، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و الدعوة إلى الإسلام ، و إصلاح ذات البين ، و غيرها من العبادات و الأعمال الصالحة التي تقربنا إلى ربنا تبارك و تعالى .
نستطيع أن نجعل خطبة اليوم بعنوان : بين ميزان الله و ميزان البشر .
اليوم بإذن الله تعالى ، نتناول أمرا جديدا و قضية هامة أخرى ، اليوم نعرض لمفهوم خطأ ينتشر بين الناس انتشارا واسعا ، و قليل من يتفطن إلى حدّه الشرعي ، و ضوابطه التي ينبغي أن يكون المسلم على ذُكْرٍ منها .
هذا المفهوم الذي نتناوله اليوم بالبيان هو قضية الحكم على الناس بالخيرية أو الدونية ، و ميزان تقييم الناس و رفعهم منازل عالية أو اعتبارهم من أهل الصلاح و الخير ، و من أهل الثقة و الدِّين ، أو اعتبارهم من أهل الفساد و الشر ، و من أهل الخداع و النفاق ، بأي ميزان نَزِنُ الناس و كيف نحكم على من نتعامل معهم ؟.
أنحكم عليهم بأمزجتنا و أهوائنا ؟ أم نحكم عليهم بشرع الله و أحكامه تعالى ؟ أنرفع الناس بما يمليه علينا واقعنا و مصلحتنا ؟ ، أم لا بدا لرفع إنسان إلى مكانة معينة أن نرجع فيه إلى الشرع ، هذا ثان مفهوم نتناوله في هذه السلسلة المباركة بإذن ربّ البرية ، سبحانه و تعالى .
إن الله عزّ شأنه بيَّنَ لنا في كتابه قضية رفع الناس لمنازل لا يستحقونها ، و غمط بعض الناس لبعض في إعطائهم ما يستحقون من التجلة و الإحترام .
قال الله تعالى : أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون .
هذا توبيخ من الله تعالى للذين جَهِلُوا سُنَّةَ الله في رفع من يستحق الرفع ، و خفض من يستحق الخفض ، أي كيف تحكمون أيها الناس بأهوائكم و تصوراتكم ، وتقولون ما ليس لكم به علم ، أفيستوي عندكم و في ميزانكم ، و عقولكم أن نجعل المسلمين الذين خضعوا لله و لحكمه ، أن نجعلهم كمن عصى الله تعالى و تمرّد على أحكامه .
و مثله قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون .
و يقول الله العظيم : أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار .
هاتان آيتان كريمتان تبينان لنا بما لا يدع مجالا للشك أن ميزان الله عدل كلّه ، فالله تعالى لا يساوي بين من أطاعه و اتقاه و بين من ردّ أمره و عصاه ، فكيف نحن عباده ، نسوّي بين من لا تجوزالتسوية بينهم .
الخلاصة :
إن من الأمور التي ينبغي أن نكون على ذكر منها ، ونمعن فيها النظر، ونأخذ منها الآيات و العبر، الفروق بين موازين الله وموازين البشر، ذلك أننا في كثير من الأحيان، نحكم على الأشخاص والهيئات و الأقوال و الاعتقادات ، من منظار الدنيا ، ونقوّم الناس و المواقف من خلال مصالحنا الدنيوية التي ننظر إلى هؤلاء الأشخاص والأحوال من خلالها ، بينما يكون الأمر عند الله تعالى مختلفاً تمام الاختلاف ، ومن هنا كان لابد لنا أن نعدل النظرة ، و نصحح هذا المفهوم ، وأن نقوم الميزان ، حتى ننظر إلى الأمور من خلال منظار الشرع ، لا من خلال منظار الهوى والعادات و التقاليد ، و ما استحدثه الناس من أنواع الموازين الدنيوية.
وسنتحدث عن بعض الأحوال والمواقف ، وأنواع الناس الذين يُنظر إليهم من خلال ميزان الدنيا، ونقارن ذلك بما عند الله تعالى .
ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي ، قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ له ، قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ له ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ".
هذا هو الفقه العظيم ، هذا هو الفهم القويم ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قام بتصحيح هذا الفهم الخاطئ لمفهوم الخيرية ، فالناس ينظرون إلى الغنى و الشرف و من تلبّس بهما نظرة تأثرت بالدنيا و زخمها و حلوها و خضرتها
وفيما يتعلّق بالقصّة ، فإن فحواها هو التنبيه على أن الميزان الحقيقي عند الله لا يكون بالصور و لا المناظر ، و لكن بالجوهر و العمل ، يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) متفق عليه ، و زاد الإمام النسائي في سننه [ و أعمالكم ] ، وقبل ذلك يقول الله في كتابه: { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} ، وهذا هو الوزن الحق والعدل.
و يؤيد ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وسلّم ، فيما رواه إماما المحدثين ، البخاري و مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة .
نعم أيها المسلمون :
العبرة يوم القيامة ليست بحجم الإنسان ولكن بحجم أعماله الصالحة ، الخالصة التي كان يعملها في الدنيا لوجه الله تعالى ، وإليكم هذا المثال الذي يوضح ما نريد قوله ، ثبت في مسند الإمام أحمد بإسناد جيد ، و صحيح ابن حبّان ، و مسند أبي داود الطيالسي ، و مسند أبي يعلى الموصلي ، و معجم الطبراني الكبير ، و تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، و المعرفة و التاريخ ليعقوب بن سفيان الفسوي ، و الآحاد و المثاني لابن أبي عاصم ، و الأنساب و الأشراف للإمام البلاذري ، و تاريخ دمشق لابن عساكر ، أن الصحابي الجليل ، عبد الله بن مسعود كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ " قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ جبل أُحُدٍ .
الله أكبر ، إن الرجال لا يقاسون بطول و لا بعرض ، إنما يقاسون بجلائل الأعمال ، إنما يقاسون بخدمتهم للإسلام ، إنّما يقاسون بسهرهم و هم يفكرون كيف ينصرون الإسلام ، إنما يقاسون من أجل معاناتهم لترتفع راية محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الرايات ، إنما يقاسون ببنائهم لبيوت الله تعالى ، لتتوحد القلوب و العقول على طاعة الله و نشر شريعته في العالمين ، إنما يقاسون ببنائهم لمدارس إسلامية حتى تتربى أبناؤهم على الإسلام و العلم و لغة القرآن ، بهاته القيم يرتفع شأن المسلم ، عند الله ثم عند الناس ، و في ذلك فليتنافس المتنافسون .
لا بأس بالقوم من طول و من عرض ... أجسام البغال و أحلام العصافير .
و قال الشاعر المُجِيدُ يوما :
يا صاحب الجسم كم تشقى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسرانُ
أقبل على النفس و استكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان ُ.
أتعرفون من هو عبد الله بن مسعود ؟ إنّه من أوائل من أسلم ، إذ أخرج الطبراني والبزار وغيرهما عنه أنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا. و هو أول من جهر بالقرآن بين ظهراني المشركين في مكة ، فآذووه و كادوا يقتلونه ، إنه من صاحب رسول الله في جميع أوقاته ، يتعلّم منه العلم ، و شرائع الإسلام ، حتى قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ كُنَيْفٌ مُلِءَ عِلْمًا ]، و حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته ، رضي الله عنه و أرضاه .
وكان مستجاب الدعوة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالله - رضي الله عنه -: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَدْعُو، فَقَالَ: "سَلْ تُعْطَهْ"، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، جَنَّةِ الْخُلْدِ.
تنبيه :
معنى ذلك: لا ينبغي أن نتوهم أننا إذا صلينا الصلوات الخمس كنا كما أراد الله، أننا إذا صمنا رمضان أدينا ما علينا ، أننا إذا حججنا بيت الله الحرام كنا مسلمين حقا ، أننا إذا أدينا زكاة مالنا انتهى كل شيء ، مع طل الذي ذكرنا ، نقول لإخواننا المسلمين ، دينكم يظهر في بيعكم وشرائكم ، دينكم يظهر في كلامكم ، دينكم يظهر في أخلاقكم مع إخوانكم في المسجد ، دينكم يظهر في بيوتكم مع أزواجكم و أبنائكم ، دينكم يظهر في معاملاتكم مع جيرانكم .
أمر آخر يدلنا على عظم هذا الدين ، و أنه يرفع شأن أهله جميعا ، ما ثبت في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ، كَانَت تقمُّ الْمَسْجِدَ ؛ فَمَاتَت فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالُوا : مَاتَت ، قَالَ : أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِا ؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا ، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا . رواه البخاري ، ومسلم .
هذه امراة سوداء اهتم الرسول بأمرها ، و عظّم شأنها جدا ، حتى أنّه تنقل بنفسه عليه الصلاة و السلام ليصلي على قبرها ، عكس ما هو متداول أن النساء لا قيمة لهن في دين الله عز و جل ، فافهمو دينكم رحمكم الله .
أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله .
الخطبة الثانية :
كلها دعاء للمسلمين .
و الله الموفق لا رب سواه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق