Translate

2014-10-31

الدرس الرابع و العشرون من سلسلة علوم القرآن الكريم .

                          بسم الله الرحمن الرحيم :

سلسلة دروس علوم القرآن .

الموضوع :الوقف والابتداء :

لمعرفة الوقف والابتداء أهمية كبرى في كيفية أداء القرآن حفاظًا على سلامة معاني الآيات. وبُعدًا عن اللَّبس والوقوع في الخطأ. وهذا يحتاج إلى دراية بعلوم العربية، وعلم القراءات، وتفسير القرآن، حتى لا يفسد المعنى. ولهذا أمثلته:
فيجب الوقف مثلًا على قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}  ،  ثم يبتدئ: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}  ، لئلا يتوهم أن قوله: "قيمًا" صفة لقوله "عوجًا" إذ العوج لا يكون قيمًا.

وعلى ما آخره هاء سكت في مثل قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ, وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}  ، وقوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}  ، فإنك في غير القرآن تثبت هذه الهاء إذا وقفت، وتحذفها إذا وصلت، وهي مكتوبة في المصحف بـ "الهاء"، فلا يوصل، لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط "الهاء" في الوصل. فإثباتها إذا وصلت مخالفة للعربية، وحذفها مخالفة للمصحف، وفي الوقف عليها اتباع للمصحف والعربية معًا. وجواز الوصل بـ "الهاء" إنما يكون على نية الوقف.

ويجب الوقف مثلًا على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}  ،  ثم يبتدئ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}  ، كي يستقيم المعنى، لأنه إذا وصل أوهم هذا أن القول الذي يحزنه هو قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وليس كذلك.
ولا شك أن معرفة الوقف والابتداء لها فائدتها في فهم المعاني وتدبر الأحكام، عن ابن عمر قال: "لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، ولقد رأينا اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي. وتتعظ بمواعظي".

أقسام الوقف:

اختلف العلماء في أقسام الوقف:

فقيل: ينقسم الوقف إلى ثمانية أضرب: تام، وشبيه به، وناقص، وشبيه به، وحسن، وشبيه به، وقبيح، وشبيه به.
وقيل: ينقسم إلى ثلاثة: تام، وجائز، وقبيح.
وقيل: ينقسم إلى قسمين: تام، وقبيح.
والمشهور أنه ينقسم إلى أربعة أقسام: تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك.

1- فالتام: هو الذي لا يتعلق بشيء مما بعده، وأكثر ما يوجد عند رءوس الآي، كقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  ، ثم يبتدئ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}  ، حيث انتهى بهذا كلام بلقيس، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}  ، وهو رأس الآية.
2- والكافي الجائز: هو الذي يكون اللفظ فيه منقطعًا، ويكون المعنى متصلًا. ومن أمثلته: كل رأس آية بعدها لام كي: كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ, لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
3- والحسن: هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به في اللفظ والمعنى كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
4- والقبيح: هو الذي لا يفهم منه المراد، كالوقوف على قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا}  ،  والابتداء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ؛ لأن المعنى على الابتداء يكون كفرًا، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} 4, فلا يقف على "قالوا" وهكذا..

آداب التلاوة:

ويستحب لقارئ القرآن:

1- أن يكون على وضوء، لأن ذلك من أفضل الذكر. وإن كانت القراءة للمُحدِث جائزة.

2- وأن يكون في مكان نظيف طاهر, مراعاة لجلال القراءة.

3- وأن يقرأ بخشوع وسكينة ووقار.

4- وأن يستاك قبل البدء في القراءة.

5- وأن يتعوَّذ في بدايتها، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وأوجب الاستعاذة بعض العلماء.
6- وأن يحافظ على البسملة في مطلع كل سورة سوى "براءة" لأنها آية على الرأي الراجح.

7- وأن تكون قراءته ترتيلًا، يعطي الحروف حقها من المد والإدغام، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} ، وعن أنس أنه سُئل عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كانت مدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم" ، وعن ابن مسعود: "أن رجلًا قال له: إني أقرأ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر؟ ، إن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع"  ، وقال الزركشي في "البرهان": "كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وأن لا يُدغم حرف في حرف، وقيل: هذا أقله، وأكمله أن يقرأه على منازله، فإن قرأ تهديدًا لفظ به لفظ التهديد، أو تعظيمًا لفظ به على التعظيم".

8- وأن يتدبر ما يقرأ، لأن هذا هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم. وذلك بأن يُشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يقرأ، ويتجاوب مع كل آية بمشاعره وعواطفه، دعاء واستغفارًا، ورحمة، وعذابًا. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وعن حذيفة قال: "صليتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوَّذ".

9- أن يتأثر بآيات القرآن وعدًا ووعيدًا، فيحزن ويبكي لآيات الوعيد فزعًا ورهبة وهولًا، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} ، وفي حديث ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" . قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "نعم.. إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} ،  قال: "حسبك الآن. فالتفتُّ فإذا عيناه تذرفان"  ، قال في شرح المهذب: وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من المصائب.

ورَوَى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذه الأمة- يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -أو حلوقهم- إذا رأيتموهم -أو إذا لقيتموهم- فاقتلوهم" .

10- وأن يُحسِّن صوته بالقراءة، فإن القرآن زينة للصوت، والصوت الحسن أوقع في النفس، وفي الحديث: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم"

11- وأن يجهر بالقراءة حيث يكون الجهر أفضل. لما فيه من إيقاظ القلب، وتجديد النشاط، وانصراف السمع إلى القراءة، وتعدي نفعها إلى السامعين، واستجماع المشاعر للتفكير والنظر والتدبر. أما إذا خشي بذلك الرياء، أو كان فيه أذًى للناس كإيذاء المصلين فإن الإسرار يكون أفضل، قال, صلى الله عليه وسلم: "ما أَذِن الله لشيء ما أَذِن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به"  .

12- واختلفوا في القراءة في المصحف والقراءة على ظهر قلب، أيهما أفضل؟ على ثلاثة أقوال :

أحدها: أن القراءة في المصحف أفضل، لأن النظر فيه عبادة، فتجتمع القراءة والنظر.

وثانيها: أن القراءة على ظهر القلب أفضل، لأنها أدعى إلى حسن التدبر، وهو الذي اختاره العز بن عبد السلام وقال: "قيل: القراءة في المصحف أفضل، لأنه يجمع فعل الجارحتين: وهما اللسان والعين، والأجر على قدر المشقة، وهذا باطل، لأن المقصود من القراءة التدبر، لقوله تعالى: {لِّيَدَّبَّرُواُ آيَاِتِه} ، والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحًا".
وثالثها: أن الأمر يختلف باختلاف الأحوال، فإن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف, فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل..

                                           تعلُّم القرآن والأجرة عليه: 

تعليم القرآن فرض كفاية، وحفظه واجب على الأمة، حتى لا ينقطع عدد التواتر فيه حفظًا، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين، وإلا أثموا بأسرهم، وفي حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" .
وسبيل تعلمه حفظ آيات يتلوها آيات، وهذا هو المعروف اليوم في وسائل التربية الحديثة، أن يحفظ الدارس شيئًا قليلًا، ثم يتبعه بقليل آخر، ثم يضم هذا إلى ذاك، وهكذا. عن أبي العالية قال: "تعلَّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسًا خمسًا".

وقد اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، ورجح المحققون الجواز، لقوله, صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" ، وقوله: "زوجتكها بما معك من القرآن" .

وقسَّم بعض العلماء تعليم القرآن تقسيمًا جيدًا للحالات المختلفة، وبينوا حكم كل حالة منها: قال أبو الليث في كتاب "البستان": "التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها للحسبة ولا يأخذ به عوضًا، والثاني أن يعلِّم بالأجرة، والثالث أن يعلِّم بغير شرط فإذا أهدي إليه قبل.

فالأول: مأجور عليه، وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

والثاني: مختَلَف فيه، فقيل لا يجوز، لقوله, صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية" ، وقيل: يجوز، والأفضل للمعلِّم أن يشارط الأجرة للحفظ وتعليم الكتابة، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به، لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا له.

وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعًا، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معلِّمًا للخلق، وكان يقبل الهدية، ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة وجعلوا له جُعلًا، وقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي معكم فيها بسهم" 

و الله الموفق لا رب سواه  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق