بسم الله الرحمن الرحيم :
سلسلة دروس علوم القرآن .
الموضوع : الفرق بين المُحكم والمتشابه:
سلسلة دروس علوم القرآن .
الموضوع : الفرق بين المُحكم والمتشابه:
أنزل الله الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، فرسم للخلق العقيدة السليمة والمبادئ القويمة في آيات بينات واضحة المعالم، وذلك من فضل الله على الناس حيث أحكم لهم أصول الدين لتسلم لهم عقائدهم ويتبين لهم الصراط المستقيم، وتلك الآيات هي أم الكتاب التي لا يقع الاختلاف في فهمها سلامة لوحدة الأمة الإسلامية وصيانة لكيانها {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
وقد تأتي هذه الأصول الدينية في أكثر من موضع بالقرآن مع اختلاف اللفظ والعبارة والأسلوب إلا أن معناها يكون واحدًا، فيشبه بعضها الآخر ويوافقه معنى دون تناقض، أما ما عدا تلك الأصول من فروع الدين فإن في آياتها من العموم والاشتباه ما يُفسح المجال أمام المجتهدين الراسخين في العلم، حتى يردوها إلى المُحكم ببناء الفروع على الأصول، والجزئيات على الكليات وإن زاغت بها قلوب أصحاب الهوى وبهذا الإحكام في الأصول والعموم في الفروع كان الإسلام دين الإنسانية الخالد الذي يكفل لها خير الدنيا والآخرة على مر العصور والأزمان.
الإحكام العام والتشابه العام:
المُحكم لغة: مأخوذ من حكمت الدابة وأحكمت: بمعنى منعت، والحكم: هو الفصل بين الشيئين، فالحاكم يمنع الظالم ويفصل بين الخصمين، ويميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها: إذا جعلت لها حكمة: وهي ما أحاط بالحنك من اللجام لأنها تمنع الكرس عن الاضطراب، ومنه الحكمة: لأنها تمنع صاحبها عما لا يليق، وإحكام الشيء: إتقانه ، والمحكم: المتقن.
فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، والرشد من الغي في أوامره، والمُحكم منه: ما كان كذلك.
وقد وصف الله القرآن كله بأنه مُحكم على هذا المعنى فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، فالقرآن كله محكم: أي إنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل ، والصدق والكذب. وهذا هو الإحكام العام.
والمتشابه لغة:
مأخوذ من التشابه: و هو أن يشبه أحد الشيئين الآخر، والشبهة: هي ألا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينًا كان أو معنى، قال تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} ، أي يشبه بعضه بعضًا لونًا لا طعمًا وحقيقة، وقيل: متماثلًا في الكلام والجودة.
وتشابه الكلام: هو تماثله وتناسبه بحيث يُصدِّق بعضه بعضًا، وقد وصف الله القرآن كله بأنه متشابه على هذا المعنى فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي} ، فالقرآن كله متشابه: أي إنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والجودة، ويُصدِّق بعضه بعضًا في المعنى ويماثله، وهذا هو التشابه العام.
وكل من المُحكم والمتشابه بمعناه المطلق المتقدم لا ينافي الآخر، فالقرآن كله مُحكم بمعنى الإتقان، وهو متماثل يُصدِّق بعضه بعضًا، فإن الكلام المُحكم المتقن تتفق معانيه وإن اختلفت ألفاظه، فإذا أمر القرآن بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره، وكذلك الشأن في نواهيه وأخباره، فلا تضاد فيه ولا اختلاف: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
الإحكام الخاص والتشابه الخاص:
وهناك إحكام خاص وتشابه خاص ذكرهما الله في قوله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } ، وفي معناهما وقع الاختلاف على أقوال أهمها:
أ- المحكم: ما عُرِف المراد منه. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه.
ب- المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا. والمتشابه: ما احتمل أوجهًا.
جـ- المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه واحتاج إلى بيان برده إلى غيره.
ويمثلون للمحكم في القرآن بناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ووعده ووعيده. وللمتشابه: بمنسوخه وكيفيات أسماء الله وصفاته التي في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقوله: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} ، وقوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، إلى غير ذلك ، وأوائل السور المفتتحة بحروف المعجم وحقائق اليوم الآخر وعلم الساعة.
الاختلاف في معرفة المتشابه:
وكما وقع الاختلاف في معنى كل من المُحكم والمتشابه الخاصين وقع الاختلاف في إمكان معرفة المتشابه، ومنشأ هذا الاختلاف اختلافهم في الوقف في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هل هو مبتدأ خبره {يقولون} والواو للاستئناف، والوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ؟ ، أو هو معطوف و {يَقُولُونَ} حال، والوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} .
فذهب إلى الأول "الاستئناف" طائفة منهم أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مستدلين بمثل ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به".
وبقراءة ابن مسعود: "وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به".
وبما دلت عليه الآية من ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة.
وعن عائشة قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ... إلى قوله تعالى: {أُولُو الْأَلْبَابِ} ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" .
وذهب إلى الرأي الثاني "العطف" طائفة على رأسهم مجاهد ، فقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال: "يعلمون تأويله ويقولون: آمنا به". واختار هذا القول النووي ، فقال في شرح مسلم: إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده، بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته .
التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل:
بالرجوع إلى معنى "التأويل" يتبين أنه لا منافاة بين الرأيين، فإن لفظ التأويل ورد لثلاثة معان:
الأول: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين.
الثاني: التأويل بمعنى التفسير، فهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى يُفهم معناه.
الثالث: التأويل: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة وما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفسه ما يكون في اليوم الآخر. وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وجنة ونار. وفي الجنة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} . {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ, وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ, وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ, وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} .. وذلك نعلمه ونؤمن به، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد, وما في الآخرة يمتاز عما في الدنيا, ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
التأويل المذموم:
والتأويل المذموم بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به, إنما لجأ إليه كثير من المتأخرين مبالغة منهم في تنزيه الله تعالى عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون. وهذا زعم باطل أوقعهم في مثل ما هربوا منه أو أشد، فهم حين يؤولون اليد بالقدرة مثلًا إنما قصدوا الفرار من أن يثبتوا للخالق يدًا لأن للمخلوقين يدًا، فاشتبه عليهم لفظ اليد فأولوها بالقدرة. وذلك تناقض منهم. لأنهم يلزمهم في المعنى الذي أثبتوه نظير ما زعموا أنه يلزم في المعنى الذي نفوه، لأن العباد لهم قدرة أيضًا. فإن كان ما أثبتوه من القدرة حقُّا ممكنًا كان إثبات اليد لله حقُّا ممكنًا أيضًا، وإن كان إثبات اليد باطلًا ممتنعًا لما يلزمه من التشبيه في زعمهم كان إثبات القدرة باطلًا ممتنعًا كذلك. فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ مؤول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
وما جاء عن أئمة السلف وغيرهم من ذم للمتأولين إنما هو لمثل هؤلاء الذين تأولوا ما يشتبه عليهم معناه على غير تأويله وإن كان لا يشتبه على غيرهم.
و الله الموفق لا رب سواه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق