Translate

2015-02-16

الدرس الأول من سلسلة دروس تاريخ التشريع الإسلامي .

بسم الله الرحمن الرحيم :

الدرس الأول : مقدمة تمهيدية لعلم تاريخ التشريع الإسلامي .

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه؛ وبعد:

فهذه كلمات في تاريخ التشريع والفقه الإسلامي، تعرض لك أهم المباحث المتعلقة بالتشريع ومصادره، ونشأة الفقه وتطوره، ومذاهب الفقهاء، وقواعد كل مذهب منها ومناهجه، وسيرة هؤلاء المجتهدين، وما بذلوه من جهد شاق في البحث بالأدلة، واستنباط الأحكام منها، وتطلعك على نمو الفقه الإسلامي وازدهاره، وما يستطيع أن يقدمه لمشكلات الحياة في كل عصر من حلول ناجحة، تكفل للإنسانية عوامل الرقي والتطور، وتقيم لها حضارة مثالية فاضلة، ترتكز دعائما على مباديء الحق والعدل.
ولعل في مثل ذلك الاطلاع وهذا العرض ما يفتح الباب للباحثين، وينير السبيل أمامهم للأخذ بأسباب النهوض بالفقه الإسلامي في العصر الحاضر، حتى تستعيد أمتنا سالف مجدها، وتحتل الصدارة في مصاف الدول.

مدخل عام :

يراد بالتاريخ تعريف الوقت، يقال: أرَخ الكتاب، وأرَّخه، وآرخه: وقَّته، أي بيَّن وقته. وعلم التاريخ علم يتضمن ذكر الوقائع وأوقاتها وما جرى فيها من أحداث، وما كان لها من أثر في حياة الناس، وتاريخ علم من العلوم أيا كان نوعه يشمل نشأة هذا العلم، ومراحل تطوره، وحياة رجاله، وما قدموه من نتاج فكري لخدمة هذا العلم والنهوض به.
وتاريخ العلوم على وجه الإجمال يأتي عرضا في كتب التاريخ العام أثناء ذكر الوقائع والحديث عن مشاهير الرجال والتعريف بالحالة العلمية والفكرية في عصر من العصور.
أما استخلاص هذا وتنسيقه وترتيبه ترتيبا علميًّا؛ ليكون فنًّا من الفنون، له موضوعه وقواعده وفوائده، فإنه لم يجد عناية كافية حتى يفرد كل علم بتاريخ له في بحث منهجي متكامل.
وهذا لا يعنى أن يكون السابقون قد أغفلوا تاريخ العلوم من مناهج بحثهم، فإن بعضهم تحدث عنها ولكنه حديث مجمل، لا يفي بالغرض المقصود، وقد أفرد ابن خلدون في مقدمته الباب السادس للحديث عن العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال، وخص الفصل السابع من هذا الباب بعلم الفقه وما يتبعه من الفرائض.
وأفرد الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه "تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي" بابًا خاصًّا بالثقافة، تحدث فيه بإيجاز عن العلوم النقلية والعقلية، والحركة العلمية في كل علم منها بعصور الإسلام التي كتب فيها.
... وألف الأستاذ أحمد أمين كتبه: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر لإسلام، فتناول في بحثه الحياة العقلية في التاريخ الإسلامي، وشمل ذلك العلوم والمعارف.
فتاريخ التشريع والفقه الإسلامي هو أحد هذه العلوم التي لم يتوافر على خدمتها من العلماء إلا النزر اليسير من هؤلاء الذين ألفوا في هذا الفن الحديث، تأليفا موجزا يرسم الخطوط العامة لمناهج البحث التي ينبغي أن يقتفي أثرها الدارس لهذا العلم، فتكون دليلا له يعينه على استكمال عناصره، ومن ذلك "تاريخ التشريع الإسلامي" للخضري، و"نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي" للدكتور على حسن عبد القادر، و"تاريخ الفقه الإسلامي" للسايس. و"تاريخ الفقه الإسلامي" للدكتور محمد يوسف موسى، و" تاريخ التشريع الإسلامي" لعبد العظيم شرف الدين.
وقد ألف فضيلة الأستاذ محمد أبو زهرة مجموعة من الكتب في أبحاث موضوعية منها: "تاريخ المذاهب الإسلامية"، وكتبه عن الأئمة: "زيد بن علي" و"أبي حنيفة" و"مالك" و"الشافعي" و"أحمد" و"ابن حزم" و"ابن تيمية".
ومن الكتب التي عالجت هذا الموضوع أيضا كتاب "أصول التشريع الإسلامي" للأستاذ علي حسب الله، وكذلك كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" تأليف: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، وهو أوفاها في بحثه.
وهناك كتب أخرى تخدم هذا العلم، وتتناول كثيرًا من موضوعاته مثل: "المدخل الفقهي العام" للزرقا، "فلسفة التشريع في الإسلام" للمحمصاني، "مدخل الفقه الإسلامي" لمدكور، وصدر حديثا "مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري" للدكتور محمد بلتاجي.
ومنها كتب أخرى في المذاهب تعتبر مصدرا لهذا العلم، ومن ذلك: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف. و"آداب الشافعي ومناقبه" للرازي، و"إعلام الموقعين" لابن القيم، و"الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" لابن عبد البر، و"ترتيب المدارك وتعريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" للقاضي عياض، و"الديباج المذهب في معرفة أعياء علماء المذهب" لابن فرحون المالكي، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات" لابن شاكر، و"الفوائد البهية في تراجم الحنفية" للكنوي، و"طبقات الفقهاء الحنفية" لطاش كبرى زاده، وطبقات الفقهاء" للشيرازي، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلي، وغيرها من كتب التراجم.

أهمية دراسة تاريخ التشريع والفقه الإسلامي:

وإذا كان المقصودُ من دراسة تاريخ علم من العلوم التعريفَ بمبادئه ومسائله وأهدافه وثماره حتى تتحقق الاستفادة منه، فإن الفقه الإسلامي، لم يعد قاصرًا على مجموعة الأحكام الفرعية في العبادات والمعاملات ولكنه، بالمفهوم العام أصبح منهجا متكاملا لشعب الحياة الإنسانية كلها، في العقيدة والعبادة، والاجتماع والاقتصاد، والتشريع، والسياسة؛ لأن الطور الذي وصل إليه الفقه الإسلامي في آخر مراحله كان بناء متراصًّا، ينظم العمران البشري وأنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية للمسلمين تنظيما دقيقا، وهذا يعطي دراسة تاريخ التشريع والفقه الإسلامي أهمية كبيرة؛ لأنها تتناول الحياة الإسلامية في أخص عناصر مقوماتها، حيث كانت شريعة الإسلام هي القاعدة التي أقيم عليها بناء أمته، والمنطلق الذي ارتكزت عليها في حضارتها.
وقد تعرض الإسلام في فترات من التاريخ إلى موجات عارمة من الغزو الفكري، لتوهين مفاهيم الإسلام والانحراف بها عن جادة الحق في القديم والحديث.
تعرَّض لها في القديم بموجة الفكر الفلسفي الروماني والفارسي، حين انخدع بهذا الجدل العقلي العقيم بعض الناس، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة في علم الكلام، فأدخلوا عناصر أجنبية من الفلسفة في مادته وصورته، واشتملت ما بحثه على أبحاث لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة، ولكن وضوح العقيدة الإسلامية وجهود المخلصين لها حالا دون التأثير عليها، ووقوع الدخل فيها.
واليوم ، وفي العصر الحديث، يتعرض الإسلام لموجات عارمة أخرى بالتشكيك في صلاحية الإسلام لمسايرة تطورات العصر، ومتطلبات المدنية، واتهامه بالجمود والرجعية.
ولما كان الفقه الإسلامي هو الذي يمثل الحياة العلمية، والسلوك الاجتماعي في حياة المسلمين، فإنه جدير بأن يكون خط الدفاع الأول ضد الهجمات المتواصلة من المدنية الغريبة، والشيوعية الدولية على السواء.
ومن هنا كانت حركات الإصلاح والتقدم الإسلامي، التي يحاول بها المصلحون المسلمون التجديد، تبتدئ من الفقه؛ فهو يمثل عند دعاة الإصلاح الإسلامَ التاريخي، وهم يريدون الرجوع إلى الإسلام الأول، ويرون فيه حياة وقدرة على التطور الاجتماعي بمصادره الأصلية المستمدة من الكتاب والسنة.
أما الفقه في وضعه الحاضر، فهو في كثير منه من عمل الفقهاء أنفسهم، وهؤلاء المصلحون يريدون أن يصلوا من الإسلام نفسه -في مصادره التشريعية الأصيلة وإمكاناته الخاصة- إلى نظام حيوي تام متكامل للحياة الإنسانية. ولا يكون هذا إلا بإعادة النظر في الفقه وتطوراته، وبناء الأسس الجديدة على ما كان عليه الإسلام في عهده الأول، وعهد نهضة المسلمين الفقهية، وأيام الاجتهاد.

يتبع إن شاء الله تعالى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق