Translate

2015-04-20

الدرس الرابع من سلسلة دروس تاريخ التشريع الإسلامي .

   بسم الله الرحمن الرحيم :

عنوان الدرس : مصادر التشريع في هذا العصر:


أولا: القرآن الكريم :

قال الراغب في المفردات: القرآن في الأصل مصدر، نحو كفران، ورجحان، قال الله تعالى: [ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه ] ، قال ابن عباس: "إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به". وقد خص بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار له كالعلم، كما أن التوراة أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى عليهما السلام. قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله؛ لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار تعالى إليه بقوله: {تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} ، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} ، وقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَج} .
ومن كلام الراغب يتبين أن القرآن في الأصل مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، ومعناه في اللغة: الجمع والضم، وقد صار علما بالغلبة على الكتاب العزيز في عرف الشرع، وعرف بأنه: كلام الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ونقل إلينا تواترا؛ لنتعبد بتلاوته وأحكامه، وكان آية دالة على صدقه فيما ادعاه من الرسالة.
وقد نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، فتحدى به رسول الله العرب وهم أرباب الفصاحة والبيان، فظهر عجزهم، وبهذا قامت الحجة عليهم {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} .
وحيث كانت البشرية في أطوار نموها الأولى لا يبهرها شيء كما تبهرها الخوارق الكونية الحسية التي لا مجال فيها للتفكير والنظر ناسب هذا أن يبعث كل رسول إلى قومه خاصة، وأن تكون معجزته فيما نبغ فيه قومه، خارقة لما ألفوه؛ ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قوة سماوية عليا فوق طاقة البشر.
وظل الناس يستفيدون برسالات الله التي أخذت بأيديهم إلى مدارج الرقي، ووطأت الأكناف لختم النبوة حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخالدة إلى الناس كافة، وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه. فحيث كان تأييد الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها، كمعجزة اليد والعصا لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى، كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر مشرف على العلم معجزةً علميةً تحير العقل البشري وتتحداه إلى الأبد، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه، وأخباره الماضية والمستقبلة، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته؛ لأنه آية كونية لا قبل له بها، ولكن عجزه لقصوره الذاتي، فيكون هذا اعترافا منه بأنه وحي الله إلى رسوله، وان حاجته إلى الاهتداء له ماسة؛ ليستقيم عوجه وترقى مواهبه. ويهتدي إلى سبيل الرشاد، وهذا المعنى هو ما يشير إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله من آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". رواه البخاري ومسلم.
والقرآن الكريم هو أساس الدين ومصدر التشريع، وحجة الله البالغة في كل عصر ومصر، بلغه رسول الله لأمته امتثالا لأمر ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، واحتوى على الأمر الإلهي الصريح بوجوب اتباعه والعمل بما تضمنه من أحكام في غير موضع وبغير أسلوب واحد؛ قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ، وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} ، وقال جلَّ شأنه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .وتلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوةً له وحفظًا ودراسةً لمعانيه وعملًا بما فيه، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل. قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
وهكذا استمر حفظ المسلمين للقرآن في كل عصر، وتوارثت الأمة نقله بالكتابة على مر الدهور، جيلا بعد جيل، من غير تحريف أو تبديل، وذلك مصداق قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

وقد اشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها من الحلال والحرام، وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة، وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباحَ الذي يستنبطون في ضوئه أحكام جزئيات الحوادث في كل زمان ومكان، وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث في الناس من أقضيات.
وإنما فصَّل القرآن ما لا بد فيه من التفصيل الذي يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل كما في العقائد وأصول العبادات، أو لأنه يبنى على أسباب لا تختلف ولا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وذلك كما في تشريع المواريث ومحرمات النكاح، وعقوبة بعض الجرائم.
والقرآن الكريم كتاب هداية، يهتدي به من قرأه أو حفظه وتدبر معانيه ، وقد نزل القرآن الكريم منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزل الآية أو الآيات حسب الوقائع والأحداث، وما يريده الله تعالى من تشريع؛ تثبيتًا لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبالغة في الإعجاز، وتدرجا في التشريع، وتيسيرا لحفظه وفهمه، ودلالة قاطعة على أنه تنزيل من حكيم حميد .
أما الكتب السماوية الأخرى: التوراة والإنجيل والزبور، فكان نزولها جملة لا مفرقة.

التشريع في مكة:

العقيدة هي لب الأديان السماوية، والأصل الذي ترتكز عليه دعائم الشريعة، ولن يقبل الناس الشريعة إلا إذا صلحت عقيدتهم وآمنوا بالله عز وجل وبوحدانيته في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، واستيقنوا بعالم الغيب والدار الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء وجنة ونار، وإذا رسخت العقيدة في النفس أمكن بناء المجتمع الذي يلتزم في حياته شرع الله في علاقته بربه، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون والحياة، ولهذا كانت العقيدة أول ما دعا إليه الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
وقد اتجه التشريع طوال العصر المكي -قرابة ثلاثة عشر عامًا- إلى إصلاح العقيدة وتعميق جذورها والحفاظ على تطهيرها، وجعل الإسلام الشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله" عنوانا لتحقيق العقيدة. ومفتاحا يدخل به الإنسان في الإسلام وتجري عليه أحكامه.
فالشهادة بوحدانية الله تتضمن كمال العقيدة في الله وتنزيهه عما لا يليق به والشهادة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تتضمن التصديق بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر، وتقتضي وجوب المتابعة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} .

ومنهج الإسلام في الدعوة إلى تلك العقائد يعتمد على الحجة العقلية وذلك بلفت أنظار الناس إلى التفكير في الكون، وتدبر ما فيه من دلائل القدرة وبديع الخلق، وكيف تسير عوالمه المختلفة على نسق محكم، يدل دلالة قاطعة على وجود خالق مدبر لهذا الكون، إذ لا يتأتى أن يكون هذا الإحكام وليد الصدفة، وإذا صح الإيمان بالله تبع ذلك الإيمان بملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

والقرآن المكي بسورة وآياته يمثل هذا الاتجاه في إرشاد الناس إلى التفكير في الكون، والنظر في أرضه وسمائه، وما أودع الله فيه من أسراره، وما اشتمل عليه من دقة وإحكام، في وحدة متناسقة لا يعتريها خلل أو اضطراب، مما يوجب التصديق القلبي بوحدانية الخالق المدبر، والإيمان بأن هذا الكون سائر بتدبيره إلى الغاية التي حددها له سبحانه بعلمه وحكمته، وعندئذ يفعل به ما يشاء، مما أشارت إليه كتبه وآياته البينات، ووحيه المنزل، من ظواهر الانحلال والفناء، حيث تكون الدار الآخرة.
والقرآن الكريم في العصر المكي يعالج هذه الجوانب، فيخاطب المشركين بالمنطق الفطري في آيات قصيرة المقاطع ناصعة الحجة، تتصل اتصالا وثيقا بمظاهر بيئتهم.
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ... 

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} .
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت} .
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
وإلى جانب هذا، نزل القرآن الكريم في مكة بإبطال ما توارثته الجاهلية من عقائد فاسدة وتقاليد باطلة، وحثهم على مكارم الأخلاق، وتطهير النفس، وبيَّن لهم الأصول الكلية في الحلام والحرام أمرًا ونهيًا.

فحرم وأد البنات وقتل النفس.
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} .
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، وهذا يتعلق بحفظ النفس.
وورد المكي من القرآن بتحريم الزنا، والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
وهذا يتعلق بحفظ النسل.
وورد فيه تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم، والإسراف، والبغي، ونقص المكيال أو الميزان، والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط} .
وهذا يتعلق بحفظ المال.

وشرعت الصلاة في مكة ، كما ورد الأمر بالإنفاق والإحسان، وإن لم تشرع الزكاة إلا في المدينة، وأصل مشروعية الصيام كان بمكة؛ حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ويتحنث، ثم صام يوم عاشوراء بعد الهجرة، حتى فرض صوم رمضان بالمدينة.
وهذه هي أصول العبادات.
ونهى القرآن المكي عن الذبح لغير الله، والتقرب إلى الشركاء، وندد بما حرموه على أنفسهم وخصوا به آلهتهم، وأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه.
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} .
وهذا أصل في المطاعم.

قال الشاطبي في الموافقات:

"اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والتي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها في مكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك، ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالإفتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها، كالعدول والإحسان، والوفاء بالوعد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهلين، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكوى ونحوها، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية.وإنما كانت الجزئيات المشروعة بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر".
وكثر ذكر قصص الأنبياء في القرآن المكي؛ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عبرةً للمكذبين، ودعمًا لأصول الدين التي جاءت بها الرسالات السماوية؛ ليفيء المشركون إلى الله ويستجيبوا لدعوة رسوله. 

يتبع إن شاء الله تعالى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق